(وجهة نظر اجتهادية في فكرة دمج وزارتي التعليم)
بقلم : أ. د. نضال الشريفين.
يمرّ التعليم في الأردن اليوم بمرحلة مراجعةٍ واعية، لا تُمليها الأزمات بقدر ما تفرضها تحوّلات الزمن، وتسارع المعرفة، وتبدّل خرائط المهارات وسوق العمل، وهي مراجعة لا تعكس إخفاقًا بقدر ما تُجسِّد نضجًا مؤسسيًا يدرك أن التطوير سنة الأنظمة الحيّة، وأن الثبات في عالم متغيّر تراجعٌ مقنّع، وفي هذا السياق، يبرز نقاش دمج وزارة التربية والتعليم مع وزارة التعليم العالي في وزارة واحدة للتعليم والموارد البشرية، بوصفه أحد الخيارات المطروحة للتفكير، لا وصفة جاهزة ولا حلًا نهائيًا، بل اجتهادًا إصلاحيًا مشروعًا يستحق التأمل الهادئ والحوار المستند إلى الدليل.
فقد شكّل التعليم الأردني، عبر عقود طويلة، رافعة وطنية راسخة، وأسهم بفاعلية في بناء رأس مال بشري مشهود له إقليميًا ودوليًا، وكان أحد أعمدة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ومصدر فخرٍ وثقةٍ للدولة والمجتمع، غير أن تطوّر النظم التعليمية عالميًا لم يعد يُقاس باتساع القاعات أو كثرة الخريجين، بل بات مرهونًا بقدرة المنظومة على حوكمة سياساتها وتكامل مساراتها وتعظيم أثرها، لذا فالتحدي المطروح اليوم ليس في قيمة التعليم ولا في رسالته، بل في كيفية الارتقاء بأدائه، وتعزيز اتساق مراحله، وتحويل المعرفة إلى قوة تنموية مستدامة.
ومن هنا، فإن التعليم في جوهره ليس بناءً إداريًا تُعالَج أعطاله بتجميع الصلاحيات أو إعادة توزيع العناوين، بل منظومة متكاملة تحتاج إلى عقلٍ رابط، ورؤيةٍ جامعة، وقدرةٍ دائمة على المواءمة بين الوظيفة التربوية والغاية التنموية، وقد جاء الفصل التاريخي بين التعليم العام والعالي استجابة منطقية لاختلاف الطبيعة والوظيفة؛ فالتعليم العام معنيّ ببناء الأساس المعرفي والقيمي، ويعمل ضمن منظومة تشغيل واسعة، دقيقة، عالية الحساسية، بينما يتميّز التعليم العالي بطابع استقلالي بحثي تنافسي، لا يزدهر إلا بمرونة محسوبة ومعايير جودة صارمة، وهذا الفصل، في ذاته، ليس موطن إشكال، بل قد يكون عنصر قوة إذا أُحسن تنسيقه، غير أن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل الفصل الوظيفي إلى تكامل استراتيجي لا إلى انفصال سياساتي.
وعليه، فإن جوهر النقاش يتجاوز مسألة عدد الوزارات، ليطال كيفية ضمان الاتساق بين السياسات التعليمية، بحيث لا تعمل المراحل في جزرٍ متجاورة، بل في منظومة واحدة متصلة الأهداف والمسار، فالتطوير الحقيقي يتحقق حين تشتغل المدرسة والجامعة والتدريب ضمن خيط ناظم واضح، وحين تُبنى القرارات التعليمية على بيانات دقيقة، وتقييم مستمر، واستشراف علمي واعٍ للاحتياجات المستقبلية، وفي غياب هذا الاتساق، قد تتراجع كفاءة السياسات لا لضعف المؤسسات، بل لتشتّت القرار وتعدّد المرجعيات وتآكل الأثر.
ولعلّ التأمل في التجارب الدولية يُثري هذا النقاش دون أن يُقيده بوهم الاستنساخ، ففي سنغافورة، لم يكن تطوير التعليم ثمرة دمجٍ إداريٍّ شكلي، بل نتيجة بناء قيادة تعليمية موحّدة، ورؤية وطنية واضحة ترى التعليم سلسلة واحدة تبدأ من المدرسة ولا تنتهي عند الشهادة، بل تمتد إلى التعلّم مدى الحياة، مدعومة بأذرع متخصصة للمهارات والتدريب تستجيب بمرونة لتحولات الاقتصاد، وفي إستونيا، لم يُطرح الدمج بوصفه هدفًا، بل جرى التركيز على بناء منظومة وطنية دقيقة لاستشراف المهارات، وربط قرارات التعليم ببيانات سوق العمل، فكان التكامل المعرفي والبياني هو بوابة التطوير، أما ألمانيا، الدولة الاتحادية المعقّدة، فقد اختارت طريقًا مختلفًا، حيث طوّرت التعليم عبر استراتيجية وطنية للمهارات تشارك فيها الحكومة والولايات وأصحاب العمل والنقابات، محوِّلة التعليم إلى مشروع وطني تشاركي لا إلى ملف وزاري مغلق، والقاسم المشترك بين هذه التجارب ليس شكل الهيكل الإداري، بل وضوح الرؤية، وتوحيد القرار الاستراتيجي، وبناء السياسات على الأدلة، وربط التعليم بالتنمية دون المساس برسالته الإنسانية والمعرفية.
وعند إسقاط هذا المنطق على الواقع الأردني، يتبيّن أن النقاش حول الدمج ينبغي أن يُقرأ في إطار تحسين الأداء وتعظيم العائد، لا في سياق توصيف سلبي أو جلدٍ للذات، فالمؤشرات الوطنية، رغم ما راكمته من إنجازات معتبرة، تكشف في الوقت ذاته عن فرص واسعة للتطوير: في تعزيز مواءمة المخرجات مع متطلبات التنمية، وتنويع المسارات التعليمية، وتوسيع أفق التعليم التقني والمهني، وتعميق أثر التعليم العالي والبحث العلمي، كما تبرز الحاجة إلى تقوية الربط بين السياسات والبيانات، بما يُنتج قرارات قبول وبرامج وتمويل أكثر دقة وفاعلية، ويُحسن توجيه الموارد نحو الأثر الحقيقي.
وفي ضوء ذلك، فإن الحلّ الأكثر اتزانًا لا يكمن في التعجيل بالدمج الإداري، ولا في الاكتفاء بالإبقاء على الواقع القائم، بل في تبنّي نموذج تكاملي ذكي يُوحِّد الرؤية دون أن يُربِك الهياكل، ويجمع القرار دون أن يُفرِّغ التخصّص من مضمونه، نموذجٌ يقوم على إنشاء قيادة وطنية منسّقة لمنظومة التعليم والمهارات بصلاحيات واضحة، تتكامل تحت مظلتها سياسات التعليم العام والتعليم العالي والتدريب، وتُبنى قراراتها على قاعدة بيانات وطنية موحّدة تتتبّع مسار المتعلّم من المدرسة إلى التعليم العالي ثم إلى سوق العمل، وفي هذا الإطار، يُعاد توجيه التمويل ليصبح أكثر ارتباطًا بالأداء والأثر، لا بالاستهلاك، وتُعزَّز المسارات التقنية والمهنية بوصفها خيارًا نوعيًا استراتيجيًا، لا بديلًا اضطراريًا، مع الحفاظ الصارم على استقلالية التعليم العالي والبحث العلمي بوصفهما رافعة معرفية لا يجوز تمييعها، وهذا المسار التكاملي لا يُغلق الباب أمام خيار الدمج مستقبلًا، لكنه يجعله نتيجة نضجٍ مؤسسي لا ردّة فعل إدارية، وقرارًا مبنيًا على نتائج قابلة للقياس، لا على افتراضات أو ضغوط آنية.
ومن هذا المنطلق، فإن فكرة الدمج الكامل تظل خيارًا مطروحًا ضمن حزمة خيارات، لا غاية قائمة بذاتها، فقد يكون الدمج مجديًا إذا جاء تتويجًا لمسار إصلاحي ناضج، يسبقه إعداد تشريعي ومؤسسي، وتوحيد للبيانات، وإعادة تصميم للإجراءات، مع الحفاظ على خصوصية كل قطاع ومكانته وظيفته، أمّا طرح الدمج بوصفه حلًا إداريًا مباشرًا، فقد لا يضيف قيمة نوعية ما لم يُقترن بتحسين آليات الحوكمة، وربط التمويل بالأداء، وتعزيز المساءلة القائمة على النتائج لا على الإجراءات.
ومن الضروري التأكيد أن ما يُطرح هنا هو وجهة نظر اجتهادية مفتوحة، لا حكمًا قاطعًا ولا موقفًا نهائيا، فصناعة السياسات التعليمية الرشيدة لا تقوم على القناعات الفردية مهما بلغت وجاهتها، بل على الدراسات الميدانية، وتحليل الكلفة والعائد، والمقارنة الدولية، والتقييم المستمر. وفكرة الدمج – كما فكرة الإبقاء على الفصل – لا تُقاس بذاتها، بل بما تحققه من تحسين في نواتج التعلّم، وجودة التعليم، وتعزيز القدرة التنافسية الوطنية، وعليه، قد يكون المسار الأكثر اتزانًا في هذه المرحلة هو تعزيز التكامل المؤسسي وتوحيد الرؤية قبل حسم خيار الدمج: قيادة وطنية منسّقة لمنظومة التعليم والمهارات، بيانات موحّدة تدعم القرار، تمويل موجّه بالأداء، ومسارات تعليمية مرنة تتيح للمتعلم الانتقال والتطور دون عوائق، فإذا ما أثبت هذا المسار أثره، غدا النقاش حول الدمج أكثر نضجًا وموضوعية، قائمًا على نتائج ملموسة لا على افتراضات نظرية.
الخلاصة: إن تطوير التعليم في الأردن لا يبدأ من إعادة رسم الهياكل بقدر ما يبدأ من تحسين منطق التفكير وصناعة القرار، والدمج – إن طُرح – ينبغي أن يكون أداة محتملة ضمن رؤية تطويرية شاملة، لا غاية مستقلة. فالتعليم مشروع دولة متجدّد، يُبنى بالتراكم، ويقوده الدليل، وتحكمه المسؤولية الوطنية، ويستمد قوته من الثقة بما تحقق، والطموح الرشيد لما هو أفضل.
(للتأكيد هذه وجهة نظر ومستشهدًا بالتجارب العالمية، وربما هناك دراسات أكثر مصداقية).











