نجدت أنزور… المخرج الذي جعل الصورة تقول ما يعجز عنه الكلام
في دروب الفنّ، لا يثبت إلا أصحاب الرؤية. كثيرون يمرّون وتبهت آثارهم، بينما تبقى قِلّة قليلة تعيد تشكيل هوية الدراما وتغيّر مساراتها. من بين هذه القلّة ينهض اسم نجدت أنزور؛ مخرج لم يكتفِ بصنع أعمال ناجحة، بل ابتكر خطابًا بصريًا وفكريًا، وجعل الكاميرا شريكة في المعنى لا مجرد واجهة للحكاية.
لم ينخرط أنزور يومًا في القوالب الجاهزة ولا في السرد المطمئن. آمن بأن الشاشة ليست أداة للترفيه فحسب، بل ساحة لطرح الأسئلة المؤجلة، والاقتراب من المناطق التي يُراد لها أن تبقى معتمة. مشى بمحاذاة النار، لا ليطلق صخبًا، بل ليحوّل شرارتها إلى نور يعرّي المسكوت عنه.
من “نهاية رجل شجاع” المأخوذ عن رواية حنّا مينه، حيث أعاد الاعتبار لقوة المكان وإيقاع الضوء؛ إلى “إخوة التراب”، “العوسج”، “البواسل”، “الكواسر”، وصولًا إلى “سقف العالم”، “الحور العين” و**“ما ملكت أيمانكم”** — ظلّ اختيار مواضيعه فعل موقف، لا مجرّد صدفة. أعماله لا تغرّي بالعاطفة بقدر ما تحرّض الوعي، ولا تقدّم الإجابة بقدر ما تفتح باب السؤال.
ويبقى “الموت القادم من الشرق” علامة فارقة في سجاله مع الخطاب السياسي والإعلامي. تخطّى حدود الفن التقليدي ودخل عمق الصراع الرمزي، حتى كتب الصحفي الإسرائيلي يورام بيليد في “يديعوت أحرونوت” مقالًا صادمًا جاء فيه:
“نجدت أنزور يؤسّس لنازية عربية جديدة.”
جملة صادمة، لكنها تكشف حجم الارتباك الذي أحدثه العمل خارج الحدود، لأنه ببساطة أعاد صياغة زاوية النظر إلى الصراع، وقدّم سردية عربية واثقة مدعومة بلغة إخراجية حادّة وصارمة.
لم يكن التاريخ عنده ماضيًا يُستعاد، ولا الحاضر خلفية توضع وراء الدراما؛ بل مادة خام تُعاد صياغتها بوعي ومسؤولية. شخصياته ليست ظلالًا تمشي على الشاشة، بل نبض حيّ، وأحداثه تتقدّم بجدلها واشتباكها لا بطمأنينتها.
أعمال نجدت أنزور ليست سهلة. إنها تطلب من المشاهد أن يكون شريكًا في الرؤية، لا متلقيًا عابرًا. ولهذا حمله البعض على الأكتاف، ووقف آخرون على الضفة المقابلة، لكنه ظل وفيًّا لفكرته: أن يمنح الدراما دورًا أخلاقيًا قبل أن يكون جماليًا، وأن يحرّر الصورة من الاستهلاك ومن التكرار.
ولعلّ أهم ما يُحسب له أنّه كان — وربما يظل — واحدًا من القلائل الذين أسّسوا دراما عربية تتجاوز حدودها الضيقة نحو أفق إنساني وفكري أوسع، وتنسف “الجرأة السطحية” لصالح عمق بصري وفكري حقيقي.
خاتمة: نجدت أنزور ليس فقط مخرجًا، بل مفكر درامي جعل الشاشة أداة وعي، والصورة جسرًا بين الفن والحقيقة.
الإعلامية مايا إبراهيم













