موت النظرية الإعلامية في عصر الاتصال الرقمي
أ.د. تحسين منصور*
منذ تأسيس دراسات الإعلام في القرن العشرين، ظل الباحثون يلهثون وراء تطوير نظريات تُفسر الظواهر الاتصالية، لكن معظم ما سُمي “نظريات إعلام” لم يكن سوى **نماذج مستعارة** من علوم الاجتماع والنفس، **مجرَّدة من شروط النظرية العلمية الصارمة**. اليوم، في عصر الاتصال الرقمي حيث الخوارزميات تُعيد تشكيل الواقع ذاته، لم يعد السؤال: “هل هذه النظرية صالحة؟”، بل: **”هل بقي للنظرية الإعلامية معنى؟”**.
أولا: ما النظرية؟ وما ليست عليه
في فلسفة العلوم، النظرية الحقيقية يجب أن تكون:
تفسيرية** (تكشف العلاقات السببية).
قابلة للاختبار والتكذيب** (كما أكد بوبر).
تنبؤية** (تتجاوز الوصف إلى التوقع).
أما ما يُدرس في كُتب “نظريات الإعلام” (كحارس البوابة أو دوامة الصمت)، فهو في أحسن الأحوال نماذج وصفية أو مداخل تفسيرية وليس نظريات بالمعنى الدقيق. ***
ثانيا: التحول الرقمي: الزلزال الذي دمّر المسلَّمات
النظريات الكلاسيكية قامت على ثلاث مسلَّمات:
1. خطية الاتصال** (مرسل → وسيط → مستقبِل).
2. سلطة الوسيط المؤسسي** (صحيفة، تلفزيون).
3. جمهور متجانس** نسبيًا.
الرقمية نسفت هذه المسلَّمات عبر:
• تفكيك الخطية: بات كل مستخدم مرسِلًا ومستقبِلًا (Prosumer)، بل وصار الذكاء الاصطناعي طرفًا خفيًا في العملية.
• موت الوسيط التقليدي: لم يعد “حارس البوابة” صحفيًا، بل خوارزمية لا تعرف إلا الانحياز المؤسطر* (Algorithmic Bias).
• تذرُّر الجمهور: من كتلة واحدة إلى قبائل رقمي تعيش في غرف صدى (Echo Chambers) لا تتقاطع.
ثالثا: تشريح الجثث: كيف قتلت الرقمية “النظريات”؟
| النظرية: سبب الوفاة
*دوامة الصمت: لم يعد الخوف من العزلة حافزًا في عالم **الهويات الوهمية** والمجتمعات الافتراضية
*حارس البوابة كالصحفي لم يعد يحرس البوابة، بل **الخوارزمية** التي تختار ما نراه بناءً على بياناتنا
*ترتيب الأولويات: لم تعد وسائل الإعلام هي من يحدد “ما المهم”، بل تريندات السوشيال ميديا التي تعيش ساعات ثم تختفي.
رابعا: لماذا لا نستطيع إنقاذها؟
– الرقمية أنتجت ظواهر غير مسبوقة: مثل الحسابات الوهمية العميقة (Deepfake Bots) التي تُغذي الشائعات.
– الخوارزميات أعقد من أن تُختزل إلى “نظرية كيف نضع نظرية لفهم سلوك **ChatGPT** وهو يتطور يوميًا؟
-الفجوة الزمنية: سرعة التحول الرقمي تجعل أي تنظير عُرضة للتقادم قبل اكتماله.
خامسا: ما بعد النظرية: إلى أين
لا يعني موت النظرية موت الفكر، بل ولادة منهجيات جديدة
– النماذج الصغيرة (Micro-Models) كدراسة تأثير “التيك توك” على الذاكرة الجمعية
– التحليل الخوارزمي (Algorithmic Criticism) لفك شيفرات المنصات.
– دراسات المستقبل الرقمي (Digital Futurism) التي تتنبأ بتحولات لم تحدث بعد.
الخاتمة: نعيٌ.. وميلاد
النظرية الإعلامية ماتت، لكن هذا الموت هو شرطٌ لولادة معرفة جديدة تتعامل مع الإعلام الرقمي ككائن حي متحوّل، لا كظاهرة جامدة. السؤال الآن ليس عن “نظرية تفسر الإعلام”، بل عن “أدوات تفككه قبل أن يفككنا .
(*) أستاذ الاعلام/ قسم الصحافة والاتصال الرقمي/ الجامعة الاردنية
