د.خالد الشقران يكتب
بمناسبة امطار الخير التي من الله بها علينا ونأمل ان تنعكس ايجابا على الامن المائي في الاردن الذي يعاني اصلا من ازمة مائية تعد من بين الاشد في العالم، تظهر المؤشرات وجود تحديات قد تكون مزمنة في ادارة الموارد المائية يدلل عليها سقوط كميات كبيرة من الامطار في مواسم الخير تقاس بالمليارات من الامتار المكعبة.
فقد بلغ الهطول المطري في الموسم الحالي لغاية الآن نحو 6 مليارات متر مكعب، بينما يصل المتوسط طويل الامد الى قرابة 8.1 مليار متر مكعب سنويا، لكن السدود التي بنيت عبر عقود لا تستوعب من هذه الكمية سوى قرابة 280.7 مليون م³ كطاقة تخزينية كلية، هذه الفجوة الصارخة بين ما تهبه السماء وما تحتفظ به الارض تكشف خللا بنيويا في التعامل مع حفظ ماء المطر وإدارته بكفاءة، الامر الذي يستدعي ضرورة البحث عن حلول ابتكارية ومستدامة لتخفيف هذه الفجوة وتخزين ما يكفي من احتياجات الاردن المائية والتي لا تعد كبيرة بالنظر الى معدل كميات الهطول مقارنة بالاحتياجات السنوية التي تقدر حسب احدث احصائيات من (1.4 الى 1.5) مليار متر مكعب سنويا يتوفر منها (950) مليون متر مكعب بعجز يصل الى (400 -500) مليون متر مكعب سنويا.
تكشف الارقام حقيقة قاسية وهي ان اقل من خمسة بالمئة من مياه الامطار تجد طريقها الى السدود، بينما تتبدد الكميات الاكبر عبر السيول السريعة او التبخر او التغذية الجوفية العميقة التي يصعب استعادتها للاستخدام البشري المباشر، وامام هذا الواقع يصبح السؤال الاكثر الحاحا حول الكيفية التي يمكن عبرها تحويل فائض المطر وثروة السماء إلى مخزون استراتيجي داعم للاستقرار المائي والاقتصادي.
في ضوء هذه المعطيات، وبعد جولة بحث صغيرة حول بعض تجارب الامم والشعوب في هذا المجال يمكن الحديث عن سلسلة من الحلول التي يمكن وضعها على طاولة البحث والنقاش من قبل اصحاب الاختصاص في مواجهة الأزمة.
أحد اهم المسارات المقترحة تتمثل في توسيع قدرات التخزين السطحي والتخزين السطحي الجوفي معا، اذ بالاضافة الى اهمية الاستمرار في بناء السدود الجديدة، ينبغي العمل ضمن رؤية اوسع تعتمد كذلك على تعزيز التغذية الجوفية الاصطناعية، بحيث يتم توجيه مياه الفيضانات الى الاحواض الجوفية القابلة للاستثمار لاحقا في مواسم الجفاف، بدل تركها تندفع خارج منظومة الاستفادة، اذا ما اخذنا في الاعتبار التجارب العالمية التي تجمع بين البنى التحتية والعمليات الطبيعية والتي اثبتت أن التخزين الجوفى المدعوم يمكن أن يحول مياه الفيضانات إلى مخزون قابل للاستخدام في أوقات الجفاف، بدلاً من أن تضيع في البحر أو تتبخر كما يحدث اليوم .
الى جانب السدود التقليدية، تبرز اهمية اعتماد حلول حصاد مياه الامطار اللامركزية، خاصة في الاودية والمناطق الصحراوية، بعد ان اظهرت تجارب دول شبه جافة مثل (كينيا وشرق أفريقيا ) فعالية السدود الرملية والحواجز الصغيرة في مجاري السيول الموسمية، حيث يجري تخزين المياه داخل طبقات الرمال والتربة، ما يوفر موردا مائيا مستقرا للمجتمعات المحلية والزراعة البعلية، ويحد من الفاقد الناتج عن الجريان السطحي السري، وانطلاقا من ذلك يمكن للأردن الذي يتمتع بوجود مساحات صحراوية واسعة وأودية موسمية، أن يدرس تنفيذ نماذج مماثلة لتوسيع نطاق التخزين حتى على نطاق مجتمعي أو محلي.
كما يمكن كذلك الاستفادة من التقنيات التقليدية المطورة والتي قد تشكل مسارا واعدا، ففي بعض مناطق العالم والتي يعتبر من اهمها تجربة جبال بيرو التي استخدمت ما يعرف بنظام «مامانتييو» اعيد احياء انظمة هندسية قديمة تقوم على ابطاء حركة المياه عبر قنوات طبيعية وتخزينها بشكل غير مباشر داخل الطبيعة نفسها، بحيث تعود للظهور بعد اسابيع او اشهر في فترات الجفاف ما يوفر احتياطيا إضافيا للري والشرب، هذا النوع من الحلول يحفز التفكير ويفتح الباب امام مزج المعرفة المحلية بالعلوم الحديثة، بما يتلاءم مع طبيعة الارض الاردنية وتضاريسها.
تحسين ادارة السدود القائمة يمثل بدوره خطوة ضرورية ومهمة، خاصة وان التراكم المستمر للرسوبيات يقلص السعة التخزينية الفعلية لعدد من السدود، ما يعني ان الاستثمار في ازالة الرواسب او رفع كفاءة التشغيل قد يعيد ملايين الامتار المكعبة الى منظومة التخزين دون الحاجة الى انشاء منشآت جديدة بالكامل.
ومن الزوايا التي تستحق التوسع ايضا، ربط مشاريع تخزين المياه بالزراعة والطاقة، حيث يمكن ان يؤدي التخزين المائي المتعدد الاغراض عندما يقترن بالطاقة المتجددة او بالزراعة المستدامة، الى تعزيز صمود الاقتصاد المحلي امام تقلبات المناخ، كما يمكن للمساحات الصحراوية الواسعة ان تتحول الى منصات تجمع بين خزانات مائية ومشاريع طاقة شمسية اومشاريع كهرومائية صغيرة تسهم في تغذية الشبكات، بما يقلل الفاقد ويضاعف العائد التنموي.
ولا يمكن فصل هذه الحلول عن البعد التوعوي للمجتمع بهدف ترسيخ ثقافة ترشيد استهلاك المياه ورفع كفاءة استخدام المياه، بالاضافة الى اهمية التوعية المتعلقة بتحديث اساليب الري وتعميم التقنيات التي يمكن أن توفر مئات الأمتار المكعبة للمتر المربع الواحد سنويا، وهو رقم ذو وزن حين نحسبه على مستوى آلاف الدونمات الزراعية، ما يخفف الضغط عن الموارد السطحية والجوفية معا، ويعيد التوازن بين العرض والطلب.
أخيرا لابد من التأكيد على اهمية الاستفادة من الخبرات الدولية والتعاون الإقليمي خاصة وان كثيراً من دول العالم التي تعاني من ندرة المياه طورت مسارات متنوعة، من مشاريع ربط الأحواض المائية الكبرى إلى تعزيز شبكات إعادة تغذية المياه الجوفية، أو حتى استخدام عمليات مثل البذر السحابي لتعزيز هطول الأمطار كما هو جار في بعض دول الخليج، حيث يمكن ان يكون الأردن بموقعه الجغرافي وعلاقاته المتميزة مع مختلف دول العالم مركزا لتبادل الخبرات مع دول إقليمية وعالمية تواجه تحديات مماثلة.
في الخلاصة إذا كانت الحكومة تخطط لبناء المزيد من السدود، فقد يكون من الافضل أن تأتي هذه الخطوة ضمن استراتيجية شاملة تعامل الموارد المائية كموجود استراتيجي، بيد ان الحل الحقيقي يكمن في إدارة الموارد، وتحديث البنى التحتية، وتفعيل السياسات التي تربط بين الإنسان والبيئة والاقتصاد، حتى يكون الماء حقا رصيدا دائما للأجيال القادمة.












