يونس الكفرعيني
يونس الكفرعيني
قد يبدو السؤال للوهلة الأولى صادماً، وربما يتجرأ البعض على وصفه بالكفر أو الاعتراض، لكن دعونا نكسر قيد الظنون ونمضي إلى عمق هذا السؤال الذي يخترق القلب قبل العقل، ويستصرخ الضمائر قبل الألسن، ويجعلنا نتساءل، بل نبتهل:
“يا رب، أما ترى ما يحدث في غزة؟ أما تسمع صرخات الأطفال تحت الركام؟ أما تتابع دوي الصواريخ وهي تمزق ليلهم ونهارهم؟ أما تعلم أن البيوت تُهدم على ساكنيها؟ أما تعلم أن الأمهات يدفنّ أبناءهن بأيديهن وأن الأرض تبتلع الأجساد الطاهرة؟”
نعم، يعلم الله. بل إن الله، سبحانه، يعلم كل صغيرة وكبيرة، يعلم ما تُخفي الصدور وما تنبض به القلوب، يعلم ما يُخطّط له الأعداء في الظلام، وما يُنسج من مؤامرات خلف الجدران، ويعلم صبر أهل غزة، دموعهم التي لا يراها أحد، وآهاتهم التي تسافر في السماء تبحث عن عدل لا يأتي من البشر، بل من رب البشر.
حين تهتز غزة تحت وقع القنابل، وحين تشتعل السماء بنيران الحقد، نظن نحن أهل الأرض، نحن المحاصرين بالرؤية المحدودة، أننا وحدنا، أن أهل غزة وحدهم، لكن الحقيقة أوسع من عيوننا، الحقيقة أن الله معهم، يُحصي أنفاسهم، يُدوّن أسماء شهدائهم، يرفع مقامهم في عليين، يُخبر ملائكته عنهم، ويُباهي بصبرهم، ويكتب في لوح القدر: “هؤلاء عبادي الصابرون، المجاهدون، الثابتون، وهؤلاء أعداؤهم، الظالمون، المعتدون، العابثون بالإنسانية والضمائر.”
غزة ليست وحدها، بل معها دعوات الملايين، ودموع الأمهات من أقصى الأرض إلى أقصاها، ومعها الآيات تتلى، والأكف ترتفع، والقلوب تتضرع، والأمل رغم الجراح، لا يموت.
لعلّ القلوب الضيقة تتساءل: “أين نصر الله؟” “أين وعده للمستضعفين؟” “لماذا يُقتل الأطفال؟ لماذا تُحاصر غزة؟ لماذا تُدمر البيوت وتُقتلع الأشجار وتُحرق الأرض؟” والإجابة أوسع من أن تحويها الكلمات، لكنها تبدأ من يقين ثابت: الله يُمهل ولا يُهمل، يمهل الظالم حتى يظن أنه انتصر، يمهله حتى يغتر بقوته، حتى يبني قصوره فوق جماجم الأبرياء، حتى يملأ الأرض ظلماً وبغياً، ثم تأتي ساعة العدالة الإلهية، حين تنهار القصور على رؤوسهم، حين تتحول قوتهم إلى لعنة، حين يصبح بأسهم بينهم، حين ينقلبون خاسرين، ويبقى الصابرون، ويبقى أهل غزة، طاهرين، منتصرين، ولو بعد حين.
غزة ليست مجرد مدينة على الخريطة، ليست بقعة محاصرة خلف الأسلاك، ليست شريطاً ضيقاً يضيق أكثر تحت الحصار والعدوان، غزة فكرة، غزة رمز، غزة درس لكل شعوب الأرض أن الكرامة لا تُشترى، وأن الكبرياء لا يُقصف، وأن العزة لا تُدفن تحت الأنقاض، في كل بيت يُهدم، تنبت بيوت في القلوب، في كل شهيد يُسقط، يُولد أمل في الحرية، في كل صرخة طفل، صوت ينادي العالم: “افتحوا أعينكم، نحن هنا، نحن غزة، نحن الصامدون، نحن من نعلم الدنيا كيف تُصنع البطولة من تحت الركام، وكيف يُكتب المجد من وسط الحصار.”
قد يطول الليل، قد تعتم الأيام، قد نُصاب باليأس ونحن نرى المجازر تتكرر، ونرى العالم يتفرج، والصمت يطبق كالسلاسل على الضمائر، لكن الليل لا يُنجب إلا الصباح، والدم لا يذهب هدراً، والشهداء لا يموتون، بل يُولَدون من جديد في ذاكرة الأرض، وفي صفحات التاريخ، وفي ضمير الأحرار.
ألم يقل الله: “إن الله يدافع عن الذين آمنوا…” ألم يعدنا الله بنصرة المستضعفين؟ ألم يُخبرنا أن الصبر مفتاح الفرج؟ أن النصر مع الصبر؟ أن مع العسر يُسرًا؟ فكيف لا نؤمن أن غزة ستنتصر؟
كيف لا نصدق أن أبناءها سيخرجون من هذه الحرب أعزاء، أقوياء، أشد إيمانًا، وأكثر صلابة؟
كيف لا نؤمن أن الله معهم، يسمع ويرى ويُدبّر بحكمة، وأن يوم الحساب آت لا محالة؟
انتقام الله ليس كانتقام البشر، ليس غضباً أعمى، بل عدلٌ مطلق، توقيتٌ إلهيّ، حين تُقلب الموازين، حين يُصبح القاتل مطاردًا، والمحتل مكسورًا، والظالم ذليلًا، كما حدث عبر التاريخ، وكما سيحدث لا محالة مع من ظلم غزة وأهلها.
الله يعلم كل شيء، يعلم خيانة المتآمرين، يعلم كذب الإعلام المضلل، يعلم جبن الجبناء، يعلم استغاثة النساء، يعلم براءة الأطفال، يعلم دموع الشيوخ، يعلم كل قطرة دم، وكل صرخة، وكل ارتعاشة خوف، وكل تكبيرة في وجه القصف، وكل قُبلة وداع على جبين شهيد.
وغزة… تعلم يقينًا أن الله معها، وأن النصر صبر ساعة، وأن الوجع مهما طال، لا يدوم، بل يتحول قوة وإرادة لا تُهزم، غزة تُعلّمنا الإيمان الحقيقي: الإيمان ليس كلمات نُرددها في الرخاء، بل يقين نعيشه في الشدة، غزة تُعلمنا كيف يكون الإيمان تحت النار، كيف يُولد الأمل من الرماد، كيف يُرفع الآذان فوق أنقاض المساجد، كيف تُصلى الجمعة في الأزقة المهدمة، كيف تُربَّى الأجيال على العزة، لا الذل، وعلى الكرامة، لا الانكسار.
نعم، يعلم الله ما يحدث في غزة، ويعلم ما يحدث في قلوبنا، ويعلم من صدق في الدعاء ومن خان في المواقف، ويعلم من باع ومن صبر، ويعلم أن موعد النصر قريب، قريب كقُرب الدعاء من السماء، كقرب الشمس من الشروق، كقُرب الرحمة من القلوب المؤمنة.
غزة ليست مجرد مدينة تحت الحصار، بل بوابة للكرامة، مفتاح للصبر، مدرسة في الإيمان، شهادة حيّة على أن الله يمهل ولا يُهمل، وأن من صبر ظفر، ومن ظلم هلك، ومن ثبت نال العزة.
الله يعلم… والله ناصر المستضعفين… وغزة ستنتصر، مهما تأخر الفجر، ومهما طال ليل الظالمين.