
رمزي الغزوي
وقت تتردد الحضارة في النطق، وتفشل في التعبير، تلجأ إلى عضلاتها كي تقول ما عجز المنطق عن شرحه وإثبات قوته. في لحظة فارقة كهذه، لا يعود الصوت صوت العقل، بل صدى الغريزة حين تعلو على الوعي. العالم اليوم لا يعيش أزمة قرارات فقط، بل أزمة ضمير يبحث عن مفرداته وسط دخان البنادق.
ففي عالم اختلطت فيه الأصوات بالعواصف، لم تعد القوة أداة تُستدعى في حالات الطوارئ، إنما غدت مشروعا متكاملا، تتبناه دول وتروّج له كما يروّج التجار لبضائعهم. يقال إن الحرب عادت، لكن الحقيقة أنها لم تغب أصلا، بل غيّرت زيّها، وتقمصت دور القانون، وتربصت خلف ستار الشرعية حتى يحين وقت الانقضاض.
دونالد ترمب، بصخبه المألوف، لا يهدد مدينة أو يمحو حدودا بل يهاجم فكرة أن الإنسان يمكنه بناء نظام فوق شهوة الهيمنة. ما ينطق به ليس عثرات لغوية، بل صدمات محسوبة، تنال من وجه القانون الدولي. فحين طرح خيالات عن شراء جزر أو فرض وصاية على شعوب، كان لا يمارس سياسة، بل يحرّك غرائز خفية تلبس قناع الدولة.
المقلق ليس الصوت، بل السكون من حوله. سكوت عالمي ثقيل، يشبه ضوءا انطفأ في قاعة مزدحمة، فتسلل الخوف، وبدأ كل فرد يتحسس خياره الخاص للبقاء. في تلك الظلمة، تولد أخطر العقائد: لا قانون يحكم، ومن يملك القوة يكتب الحكاية.
قبل أكثر من قرن فكر العالم بتحريم الحرب، بعد أن ذاق ويلات الحرب الكبرى، والتي صار اسمها الحرب العالمية الأولى. معاهدة سخر منها البعض حينها، لكنها أعادت رسم ملامح الكوكب. الحرب انزوت، والتهديد تراجع، وبدأ العالم يتنفس من رئة التجارة لا البارود، وتحولت السيادة إلى مفهوم يُصان بالكلمة لا بالدبابة.
لكن تلك المعاهدة تهتكت ودخل العالم بحرب ثانية أشد ضراوة. وكأن عالمنا لا يستطيع السير على قدميه دون حروب وكروب. وما يثير الرعب أكثر الآن، أن بعض الشعوب تصفق للجزار، وهم يظنون أنه جاء ليقطع الخبز لا الأوطان.
فمن يحرس الحق وقت تخمد الحراسة هل يكفي أن نحمل أسماء دول كي ننجو من بلطجة التاريخ؟ هل نمتلك الجرأة لنقول لا للسكين، ولو غُلّفت براية صديقة؟ أم أن الخرائط تتحضر مجددا لتُرسَم بخطى العسكر لا بأقلام المفاوضين .
نحن الآن أمام باب موارب إما أن نطرقه بأمل مشترك في عدالة تليق بالبشر، أو يُركل في وجوهنا بغرور لا يعترف بالقانون، ويصفق للطغيان وعند أول ضحكة نسخر بها من جنون القوة، قد نكون بالفعل بدأنا البكاء سرا على الحق الذي تُرك بلا حارس.