
رمزي الغزوي
هل يمكن للخريطة أن تتسع لجيشين وسلطتين ومعجمين متنافرين؟ أم أن ما يسمى تعايشا ليس سوى هدنة هشة معلقة على حافة الانفجار؟ في زمن الفصائل يبدو الوطن بيتاً متصدع الجدران: أبواب بلا مفاتيح، نوافذ مشرعة للريح، وسقف ينهار فوق رؤوس أهله.
هذا الزمن ليس التباساً سياسياً ولا ازدواجية شكلية، بل نزيف يومي يبدد شعور الناس بالأمان. فالاستقرار يسقط عند أول حاجز يرفع علماً منافساً، والاقتصاد يتعثر عند أول مسيرة تنطلق من خارج قرار الدولة. والمواطن يواجه أسئلة قاسية: من يحميه إذا هُدد؟ من ينصفه إذا ظُلم؟ هل يلوذ بدولة تضعف عند الامتحان، أم بفصيل يفرض نفسه بقوة السلاح؟ في تلك اللحظة تتكسر الثقة بالمؤسسات، ويتحول الوطن إلى ساحة عيش قسري بين سلطتين لا يجمعهما سوى الخصومة الصامتة.
ويبلغ العبث ذروته حين يخرج مسؤول سياسي ليعلن أن التفكير في المساس بسلاح حزبه يعني حرباً أهلية. هنا تنكشف حقيقة المأزق: السلاح لم يعد وعداً بالحماية، بل صار غطاء لسلطة تبتز المجتمع وتضعه أمام معادلة قاتلة، إما الخضوع أو الانزلاق إلى الفوضى. عندها يتضح أن الفصائل لا تحمي الخرائط بل تضيقها، ولا تصون السلم الأهلي بل ترهنه بالتهديد.
ومع ذلك، يبقى حلم الناس بسيطاً وواضحاً: دولة طبيعية. دولة بجيش واحد لا ينافسه سلاح مواز، بقرار سيادي لا تنهشه الوصايات، وبقضاء لا يتردد أمام سطوة الميليشيات. يريدون وطناً يبني لا يهدم، يحمي لا يبتز، ويفتح أبواب الغد بدل أن يعيد خسائر الأمس.
لكن السؤال يظل معلقاً: متى يصبح الاعتراف بأن الدولة الطبيعية هي الثورة الحقيقية؟ ومتى نملك الشجاعة لنقول إن السلاح الذي يهدد بالحرب الأهلية عند المساس به هو الخطر الأكبر على السلم الأهلي؟ إلى أن يأتي ذلك الجواب، ستبقى الخرائط ضيقة، مشدودة بخيوط الخوف، والمواطن يفتش عن نافذة صغيرة يدخل منها ضوء الدولة المفقودة.