
عبدالله بني عيسى
بلغت أساليب استقطاب القرّاء عبر التضليل مستوى يمكن وصفه من دون مبالغة بأنه مقزِّز ومنفلت من كل ضابط مهني أو أخلاقي. ما كان يُعدّ انحرافاً عابراً صار اليوم ثقافة مترسخة في جزء واسع من الفضاء الصحفي الرقمي، تمارس خداع الجمهور جهاراً، وتبيع شرف المهنة لقاء «زيارة» إضافية أو رقم مرتفع على عدّاد المشاهدات. والأسوأ أنّ هذه الممارسات لم تعد حكراً على الهواة أو «دكاكين المحتوى»، بل صارت خياراً ممنهجاً لدى مواقع كبيرة تجني مئات الآلاف من الدنانير سنوياً، وتتباهى بأرقامها بينما تخسر كل يوم جزءاً من شرفها المهني.
قبل أن أغوص في الأمثلة، أؤكّد موقفي الثابت: أنا ضد أي إجراء مركزي – سواء من الحكومة أو النقابات – يقوم على تقييد العمل الصحفي تحت ذريعة مكافحة التضليل. التجارب تُظهر أن هذه الأبواب إذا فُتِحت، يصعب غلقها، وغالباً ما تُسكت الصحفي المهني قبل المُضلّل. لكن الرفض القاطع للقيود لا يعني القبول بهذا الانحدار، بل يدفعني إلى المطالبة بأمر واحد: نشر الوعي بين القراء حول الأدوات والأساليب التي تُستخدم لخداعهم. فالجمهور الواعي – لا الوزارة ولا النقابة – هو خط الدفاع الحقيقي عن الصحافة.
في السنوات الأخيرة، أصبحت المبالغة والغموض والدراما طريقة كتابة معتمدة لدى كثير من المواقع. يكفي أن يقرأ القارئ عنواناً من نوع: «الأرض في خطر» ليكتشف لاحقاً أن «الخطر» عبارة عن مذنب سيقترب بعد مليار سنة. أو عنواناً يبشّر بـ«علاوة للموظفين تدخل حيّز التنفيذ»، ليجد في التفاصيل أنها تخص خمسة موظفين فقط في دائرة هامشية. هذه ليست أخطاء صحفية؛ إنها عمليات تضليل محسوبة تُصاغ بعناية لاستدراج القارئ إلى الضغط على الرابط.
وإذا كانت العناوين الدرامية منبوذة، فإن الابتزاز الصحي أصبح الأكثر قبحاً. مقالات من نوع «5 علامات تدل على إصابتك بسرطان الرئة» أو «العلاقة بين البثور على الأذن وسرطان القولون» لا تقدم معرفة ولا طبّاً ولا توعية؛ إنها تجارة خوف رخيصة تستغل قلق الناس، خصوصاً من يعانون من الوسواس الصحي. المثير أن هذه المواد تلقى رواجاً كبيراً لأن أسلوبها قائم على بث الذعر، وليس على تقديم معلومة.
ثم يأتي الأسلوب الأكثر وضوحاً في الانحطاط: العناوين الفضائحية من طراز «تعرّف إلى الطريقة التي قُتل بها الفنان…» أو «تعرّف إلى مشهد التهام تمساح لسائح…». هنا لا حديث عن خدمة عامة أو محتوى ذي قيمة. إنها صناعة فضول بشري رخيص، تُستنزف فيها أخلاق الصحافة وكرامة الضحايا وذائقة القارئ دفعة واحدة. ومن أكثر الحيل شيوعاً أيضاً حذف عنصر «أين» بشكل مقصود، ليظن القارئ أن الحدث وقع داخل الأردن بينما هو في بلد آخر. مثال ذلك: «فتاة تنشر الرعب بقرية عبر السحر الأسود»، ليتبيّن لاحقاً أن القصة من إحدى قرى الهند، لكن العنوان صيغ ليخدع القارئ المحلي.
نحن العاملون في الصحافة الرقمية نعرف هذه الحيل جيداً، ونعرف كيف يُصنع العنوان وكيف تُدفن الحقيقة، لكن عشرات الآلاف من القراء، ليس لديهم خبرة رقمية، ينخدعون يومياً، لا لشيء إلا لأن بعض المواقع قررت تحويل «المحتوى» إلى فخ، والقارئ إلى ضحية.
الأزمة اليوم لا تقتصر على المحتوى الخبري وحده، بل تمتد إلى الإعلانات التي أصبحت تتخفّى داخل نصوص مكتوبة وكأنها تقارير صحفية. خبر عن «فرصة استثمارية»، أو «طريقة جديدة لخسارة الوزن»، أو «خدمة مالية مبتكرة» يظهر للقارئ كمادة إعلامية، بينما هو في الحقيقة إعلان مدفوع بالكامل، صيغ بخبث ليبدو موضوعياً. إن طمس الحدود بين الخبر والإعلان جريمة مهنية تُقوّض ثقة الناس بالإعلام أكثر من أي شيء آخر.
ومع انتشار عشرات المواقع الإخبارية خلال السنوات الماضية، تشكّل داخل غرف التحرير جيل جديد من الصحفيين لا يُطلب منه أن يكون دقيقاً ولا موضوعياً، بل منتجاً للتريند. يُقال له صراحة: «الفيوز أهم من أي اعتبار آخر»، وتصبح وظيفته مهددة إذا لم يحقق الأرقام التي يريدها مدير الموقع أو المالك. هكذا يتحوّل الصحفي إلى آلة، وينهار الخط الفاصل بين الإعلامي والمروّج.
ما أريد قوله في النهاية بسيط لكنه جوهري: إصلاح الإعلام لن يأتي من قرار حكومي، ولن يتحقق عبر لوائح جديدة. الإصلاح يبدأ من القارئ نفسه. كلما كان الجمهور أكثر وعياً، تراجعت فعالية هذه الأساليب، واضطرّ أصحابها إلى التراجع أو الإفلاس. أما إذا بقيت هذه الثقافة بلا مواجهة، فسوف تستمر بعض المواقع في استغلال الناس وتسميم الفضاء العام ومراكمة الأرباح على حساب الحقيقة.
إلى القراء أقول: لا تمنحوا «الفيوز» لمن يحتقركم.
اقرأوا بوعي، وتذكّروا أن خلف كل عنوان صادم، قد يكون هناك صحفي مُكره أو مدير جشع أو مؤسسة فقدت احترامها لنفسها.
والصحافة التي لا تحترم قارئها… لا تستحق أن تُقرأ.
