
ايمن الصياحين
رجلٌ وقفتُ ثمانيةً وعشرين عامًا في الصفوف الأمامية للتربية والتعليم.
لم أكن أعدّ الحصص، بل كنتُ أبني الإنسان.
لم أكن أشرح الدروس، بل كنتُ أزرع القيم، وأحمي الوعي، وأحمل الوطن على كتفي، كما يحمل المعلّم الصادق همّ أمّته دون ضجيج.
من غرفة الصف، مرّت في وجهي وجوه الأجيال، ومن بين دفاتري، كبرت أوطان، ومضى الوقت… وأنا ثابت في موقعي: معلّم، لا موظّف.
واليوم… وبعد ثمانيةٍ وعشرين عامًا من الإخلاص، والخدمة، والوفاء للميدان…
وقفت على عتبة التقاعد، لا أنتظر مكافأة، ولا تصفيقًا، بل كلمة وفاء، أو موقف صادق… فوجدتُ الصمت.
الدولة التي أحببتها بعملي، لم تبادلني التقدير، بل قابلتني بسلسلة من الوعود المتكررة، والخطابات المعلّبة، والتكريمات المؤجلة إلى ما بعد النسيان.
كيف لبلد أن ينسى معلميه بهذه السهولة؟
كيف لمؤسسة أن تُهمل خبرات تراكمت عبر العقود، وتدفنها بصمت بين ملفات التقاعد؟
لست وحيدًا في هذا الموقف، أنا صوت لآلافٍ من المعلّمين الذين خدموا بتفانٍ، ثم خرجوا من المشهد كأنهم لم يكونوا.
لكن الفرق أنني لن أصمت، لأن الكلمة كانت سلاحي يومًا، وما زالت.
لا أكتب هذا النص لأطلب منصبًا، ولا لأستجدي فرصة.
أنا ابن مكوّن عشائري راسخ، أعرف قدري، وأعرف مجتمعي.
لي اسمي، ومكانتي، واحترامي بين أهلي وناسي، لكنني أرفض أن يُعامل المعلم في وطني كمجرد رقم وظيفي يُحذف فور انتهاء الخدمة.
ما أطالب به هو ما تستحقه التجربة العميقة، والجهد الصادق، والخبرة النادرة:
أن تكون هناك مؤسسات تحفظ مكانة المتقاعد لا تهمّشه.
أن يُستثمر المعلمون الكبار في تدريب الأجيال، لا أن يُركنوا في الزوايا.
أن يكون للتربويين مكان في القرار التربوي، لا أن يُدار القطاع من خلف مكاتب باردة.
لقد قدّمت للوطن شبابي، وصبري، وجهدي، وضميري المهني.
واليوم أقولها بكرامة كاملة:
أنا لا أبحث عن إنصاف شخصي، بل عن إعادة الاعتبار لدور المعلم الحقيقي في هذا البلد.
الدولة التي لا تكرّم معلّميها وهي تسمعهم وتنظر إليهم، لن تبني شيئًا يبقى.
وإن كان هناك من ظنّ أن التقاعد هو الصمت…
فأنا جئت لأقول:
الميدان لا يغادر القلب… والمعلم لا يتقاعد من الموقف.