
رمزي الغزوي
لم نعد نعيش كما كنا، بل كما نُعرض وحسبما نروج لأنفسنا. أصبحنا نراقب حياتنا من الشاشات، نرصد تعابيرنا قبل رصد مشاعرنا، وننتظر الإعجاب أكثر مما ننتظر القرب. كل لحظة نمر بها مشروطة بالتوثيق، وكل شعور يخضع لفلتر، وكل دفء يتحول إلى رقم. نعيش كما لو أن أحدا يراقبنا طوال الوقت، نعيد تمثيل الحياة أكثر من عيشها، كأننا فقدنا القدرة على التلقائية، وصارت أعماقنا خلفية للعرض والاستعراض.
في عالمنا المنساب بلا قاع، تحول الإنسان إلى واجهة تسويقية متنقلة. كل منا موظف في حملة ترويجية دائمة لنفسه. ننشر الصور المجملة ونمنح الإعجاب للآخرين لنسترده، ونصوغ العبارات لا لنفكر بها، بل لنبهر بها. ذاتنا تحولت من كيان نابض إلى لوحة قابلة للمراجعة والتعديل، يحررها الجمهور، ويمحوها المزاج الرقمي الجمعي.
النرجسية لم تعد اضطرابا نفسيا، بل غدت عادة جماعية، تُروّجها الخوارزميات وتُكافئها المنصات والعوالم الافتراضية. الكل يحكي عن نفسه، ويصنع مجده اليومي، الكل يُقنع الجميع أنه يعيش أفضل نسخة من حياته. من لم يكن نجما في الواقع، صار نجما في الوهم والأوهام. نحن في زمن يستطيع فيه أي إنسان أن يبني بطولة من هواء والخواء، وأن يُسوق ذاته كمنتج استهلاكي يُعرض ثم يُنسى.
لكن ماذا يبقى من الإنسان حين يصدّق نسخته الرقمية أكثر مما يصدق قلبه؟ ماذا يتبقى حين تتحول العلاقات إلى إشعارات، والمشاعر إلى رموز، والصداقة إلى عدد؟ متى كانت آخر مرة تحدثنا فيها بصمت، دون جمهور، دون نية للنشر، سائلين: كيف حالك؟ لا للرد، بل للإصغاء والتفهم والقبول.
امتلأت المنصات، وجفت الأرواح. زاد البوح، وقل الفهم. تمددت الصور، وانكمشت المشاعر. صرنا نتحدث عن الحياة أكثر من عيشها، نتصور اللحظة أكثر مما نذوقها، نتابع أنفسنا من الخارج، فيما الداخل يلوح لنا مستغيثا من وراء الشاشة.
فهل نملك الجرأة لنطفئ الضوء المسرحي؟ أن نختار الصدق لا العرض، القرب لا التفاعل، الإنسان لا المؤثر؟ هل ما زال فينا متسع لصوت لا ينتظر التصفيق، ووجه لا يبحث عن الفلتر، وقلب لا يُقاس بعدد المشاهدات؟
لربما لا نحتاج إلى ثورة، بل إلى رجفة صدق. إلى همسة داخلية تعيدنا إلينا. إلى خطوة واحدة، نخطوها في الاتجاه المعاكس لهذا التيار. لحظة لا نعرضها، ولا نوثقها، ولا نشرحها. لحظة نعود فيها كما كنا قبل الصورة، قبل البث، قبل أن ننسى كيف نشعر.
ولعل المعجزة الآن، أن تكون حقيقيا في عالم مزيف، وأن تُحب دون إعلان.