د.حسام العتوم
حتى لايذهب القاريء الكريم معي بعيدا، فأنني أقر وبصوت عال بأن روسيا الاتحادية وجمهورية أوكرانيا دولتان جارتان وصديقتان لنا هنا في الأردن ولكل العرب، وتجمع شعبيهما الشقيقين كذلك روابط أخوية وعلاقات اجتماعية حميمة قوية وتاريخية، وعمقهما البناء السوفيتي الواحد، حيث عاشا مجاعة الثلاثينيات والأربعينيات الواحدة Golodomor)) مع باقي السوفييت، واشتركا في الحرب العالمية الثانية 1939 1945 في خندق واحد في مواجهة النازية الألمانية الهتلرية، واللغة الروسية سائدة في أوكرانيا خاصة في الجناح الشرقي منها، وفي المناطق الحدودية الروسية – الأوكرانية تختلط اللغتين لتشكل لغة ولهجة واحدة مختلطة، والدين الأرثذوكسي المسيحي جامع بينهما أيضا، إضافة للتجارة والصناعة والسياحة فهما في حالة تقارب فريدة. لكن ما بعد انقلاب عام 2014 ليس كما قبله، ومع خروج فيكتور يونوكوفيج من السلطة في (كييف)، وقدوم بيترو باراشينكا (رجل الأعمال الثري)، وفلاديمير زيلينسكي (الفنان) عام 2019، ومع صعود التيار البنديري المتطرف، تبدلت الأحوال وانقلبت الطاولة السياسية بين (موسكو) و(كييف) 24 درجة، خاصة بعد توجيه بوصلة أوكرانيا صوب أمريكا وأوروبا والاتحاد الأوروبي وحلف (الناتو) العسكري دفعة واحدة، والذهاب أكثر باتجاه استقطاب قاعدة أمريكية وسط الغرب الأوكراني. والتسبب في خسران إقليم (القرم) بعد مكوثه (60) عاما في أوكرانيا منذ عهد الزعيم السوفيتي نيكيتا خرتشوف عام 1954، وبعد 14 عاما على جلوس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحكم في (موسكو) في قصر الكرملين الرئاسي. وتشنج علاقة العاصمة (كييف) مع الشرق الأوكراني (الدونباس) الموالي لروسيا والمتحدث أكثر باللغة الروسية.
وهكذا نرى كيف حولت العاصمة (كييف) مسارها عبر كافة المستويات السياسية، والاقتصادية، والمواصلات، والاجتماعية، والدينية، واللغوية، والإعلامية. وكيف عقدت العزم على عدم الالتفات لنداءات موسكو ولإتفاقية (مينسك) 1990 الرامية لضبط ملف (الدونباس) و(لوغانسك) شرقا في أوكرانيا، ولترطيب العلاقة مع موسكو نفسها، ورفض لأوكرانيا – زيلينسكي العام 2021 لدعوة الرئيس الروسي بوتين لزيارة موسكو ولقائه بوساطة بيلاروسية قادها رئيسها الكسندر لوكاشينكا لصيد عصفورين بحجر واحد (ترتيب العلاقة مع موسكو، وعلاقة (كييف) مع الدونباس، والذي هو أمر داخلي أوكراني – أوكراني). وبالمناسبة لم يشهد تاريخ أوكرانيا المعاصرة أية تشنجات مع روسيا الاتحادية في عهد مجموعة رؤساء أوكران مثل(ليونيد كرافتشكوك، ليونيد كوتشما، فيكتور يوشينكو، فيكتور يونوكوفيج، الكسندر تورتشينوف). ومنذ عهد بيترو باراشينكا (الوزير السابق في حكومة يونوكوفيج) بدأت أوكرانيا تحلق خارج فضاء العلاقة مع روسيا الاتحادية رغم تجارته معها، وتواصلت الصورة نفسها في عهد فلاديمير زيلينسكي (الفنان) والمتحدث باللغة الروسية كما باراشينكا، لكن قربهما من روسيا، ومعرفتهما بلغتها لم يسعفهما مواصلة صداقتهما معها، ويبدو أن قوى الشد العكسي بقيادة التيار البنديري المتطرف على خط الصراع الدائر بين أوكرانيا وروسيا سابقا وحاليا لكي لا يتحقق الصلح السياسي والاقتصادي.
وسياسيا، حدث التغير عبر -إدارة الظهر- من طرف أوكرانيا الجديدة (باراشينكا وزيلينسكي) لروسيا الاتحادية بالكامل، وحتى التنكر لعمق تاريخ الاتحاد السوفيتي السابق وماله علاقة بالمصير الواحد المشترك في الحرب العالمية الثانية (1939 1945)، ومن بدأ الحرب؟ وإدانة السوفييت بذلك، وحتى قبل ذلك، التغافل للمجاعة المشتركة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، واحتسابها على أنها وُجهت ضد الأوكران فقط. والذهاب لتحريك موجات من الفوبيا الروسية (الرهاب الروسي غير المبرر) -Unjustified Russophobia)). واقتصاديا، رغم ارتباط الصناعات الأوكرانية بالروسية جرى التجديف تجاه الغرب، وعلى مستوى مادة الغاز الطبيعي حدثت خلافات مع روسيا وعلى صعيد شركتي الغاز (نفتوغاز و غازبروم) حول إمدادات الغاز وسعره، وطريقة تمديده لأوروبا عبر أوكرانيا وبحجم 80%. وتصاعد الخلاف الأوكراني – الروسي في موضوع الغاز بين الأعوام 2005 و2009، ودفع باتجاه قطعه عن أوكرانيا إلى أن تحول مباشرة إلى أوروبا من روسيا بدون المرور بأوكرانيا عام 2018، وهو مايسمى اليوم بغاز 2.
وحديث إعلامي للرئيس الروسي بوتين مع الإعلام الأمريكي حول جاهزية روسيا لتزويد أوروبا بالغاز بكميات كبيرة وبأسعار رخصية بسبب قصر مسافة الإمدادات بالمقارنة مع السابقة عبر أوكرانيا. وحدث تغيير على شبكة المواصلات بين البلدين، وتشديد جمركي بينهما، وتأثرت العلاقات الاجتماعية سلبا وعلى مستوى الزيارات العائلية المتبادلة، وتقطعت السبل بين غرب أوكرانيا وشرقها.
وانفصال تاريخي جديد، حدث على مستوى تبعية الدين الأرثوذكسي الأوكراني للكنيسة في موسكو الذي تحول لحالة استقلالية دينية مسيحية أوكرانية. وتم اعتماد اللغة الأوكرانية لغة رسمية لأوكرانيا، وعملت أوكرانيا على التخلص من حضور اللغة الروسية في المدارس والجامعات وفي مؤسسات المجتمع المدني رغم استخدامها من قبل كبار ساسة أوكرانيا علنا. وحرب إعلامية باردة عبر الإعلام المطبوع والمسموع والفضائي والأنترنت طابعها العام روسي – أوكراني سياسي اقتصادي. وما تراهن عليه موسكو بوتين الآن هو انتظار عهد ما بعد زيلينسكي لعودة العلاقات الروسية – الأوكرانية إلى سابق عهدها قبل انقلاب عام 2014، وهو الأمر غير السهل خاصة بعد تجديف السياسة الأوكرانية تباعاً إلى الأمام عبر باراشينكا وزيلينسكي.
ومشروع الغاز الروسي الجديد (نورد ستريم 2) الرابط لروسيا بألمانيا عبر بحر البلطيق، والذي انتهى العمل به بتاريخ 10 سمبتمبر 2021 سيتمكن من نقل 55 مليار متر مكعب وبكلفة عشرة مليارات دولار، وبطول قدره 1230 مترا، وتم تقاسم التكلفة بين شركة غاز بروم وبين شركات أوروبية مثل (الألمانية والأنجليزية والهولندية والفرنسية والنمساوية). وفي الوقت الذي تعتبره أوروبا مكسبا لها إلى جانب روسيا، تعتبره أوكرانيا خطرا جيو- سياسيا كبيراً.