
رمزي الغزوي
قد تخبو الحروب ويسكنُ هدير مدافعها، ويهبط غبار معاركها، وينبت الأخضر والأصفر في خنادقها. ولكن نارها تظل أجّاجة مستعرة في أرواح من أجبرتهم ألسنة لهبها على ترك بيوتهم ليفروا لاجئن في أصقاع الأرض باحثين عن بقعة أمن تحميهم.
تاريخنا الإنساني الملطّخ بدماء تلك الحروب وكروبها وندوبها يذكر لنا بلسان طلق أن قلة قليلة من هؤلاء اللاجئين رجعوا إلى بيوتهم بعد إنطفاء نيرانها وأنا أذكر هذه الحقيقة ليس تشاؤما بقدر ما نعيشه ونتعايشه على الأقل في بلدنا الذي كان على الدوام واحة يفر إليها اللاجئون حاملين غصة في قلوبهم، ومتدرعين أوطانهم في أشواقهم.
في العادة فإن الحياة تأخذ هؤلاء اللاجئين بتفاصيلها فيتكيفون معها ويعتادونها ويصيغون منها حياة موازية لحياتهم السابقة من أبسط الأشياء ويقنعون بها وفي يوم اللاجئين العالمي الذي صدف قبل يومين أتعاطف مع أكثر من 80 مليون إنساناً نصفهم من الأطفال أجبروا على ترك أوطانهم بسبب الحروب وبهذا المناسبة فإن الأمين العام للأمم المتحدة الذي دأب على الإعراب عن قلقه سمعناه يعرب عن شكره للبلدان المضيفة للاجئين منوها لسخائها وإنسانييتها.
كلام جميل فقط ولكنه يمثل عالمنا الذي حين تسكن أية حرب ينسى من تهجّروا بسببها، ويبدأ بتقطير الحد الأدنى لشروط الحياة عليها؛ كي يرضوا بالأمر الواقع ويرضخوا له عالمنا يقفز عن هؤلاء بعنجهية، ويتجاوزهم وينخرط في تثبيت واقع حالهم كي تسقط أوطانهم بالتقادم من حساباتهم.
حسب تقرير أممي يتعاطف أكثر من 95% من الأردنيين مع اللاجئين إلى بلدهم وهذا ليس جديدا على بلد لم يتوان يوما عن تقاسم لقمة الخبز مع من يفرون إليه قاصدين أمنه وأمانه ولكن هذا قد فاقم معاناة البلد، وضيّق على أهلها وسد أفق تعافيهم.
فمع أسخن الحروب سيظل سؤال المأساة السورية مفتوحاً كجرح مملّح لماذا لم يعد اللاجئون إلى بيوتهم بعد أن سكنت الحرب في بلدهم الشقيق لماذا لم يعودوا إلى أعشاشهم وحواكيرهم وحياتهم التي لا ينسونها فهذه الطريق مشرعة لهم، ولا أحد يمسك بهم.
لا أشكّ للحظة بأشواق اللاجئين السوريين إلى بيوتهم، أو بقاياها أو ركامها، ولا بحنينهم إلى أروحهم المتروكة هناك. لكنهم يحجمون عن العودة؛ هم أخبر منا به، وذاكرتهم تحتشد بصور عن هذا.
وإن قال أحدهم: كيف يعودون إلى ركام البيوت وحطامها؛ فسنقول: ما المانع فما زال في المكان روح البيت وطيفه وذاكرته وهذا يكفي لإعادته إلى الحياة. أرواح البيوت لا تفارق المكان، بل تعين على استعادته ولكنهم يدركون معنى عودتهم.