
الدكتور محمد كامل القرعان
في ظل مسيرة التحديث السياسي والإداري والاقتصادي التي يقودها جلالة الملك عبد الله الثاني، يبرز على السطح تحدٍ دقيق يجب التعامل معه بكل جدية ومسؤولية، ويتمثل في الانتقال السريع لبعض الشخصيات التي شغلت مواقع سيادية أو وزارية أو مراكز قرار حساسة في الدولة إلى مناصب عليا في مؤسسات خاصة، وهو ما قد يفتح الباب – بقصد أو دون قصد – لتضارب المصالح أو استغلال الموقع السابق لتحقيق مكاسب لجهات محددة.
نحن هنا لا نشكك في نزاهة هذه الشخصيات الوطنية التي خدم كثيرٌ منها الوطن بإخلاص وقدموا الكثير، بل نطالب بحمايتهم من أي محاولة لاستغلال أسمائهم وخبراتهم في سياقات قد تتعارض مع المصلحة العامة. إذ بات من المعروف أن بعض المؤسسات الخاصة تستقطب هذه الأسماء الوازنة لتوظيف نفوذها السابق، ما يمنحها عمليًا نوعًا من “الحصانة الضمنية” من المساءلة أو الرقابة، في مخالفة صريحة لمبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص التي تسعى الدولة لترسيخها.
وفي الواقع الأردني، شهدنا حالات لوزراء ومسؤولين كبار انتقلوا مباشرة بعد مغادرتهم مواقعهم إلى مناصب في شركات كبرى، أو إلى رئاسة مجالس ، أو مؤسسات مالية وتجارية، بعضها يرتبط بعقود مع الدولة أو يحتاج إلى تراخيص وموافقات رسمية. هذا الواقع لا يُعدّ خرقًا قانونيًا، لكنه يضع علامات استفهام أخلاقية، ويُظهر الحاجة لتشريع يحصّن الدولة من أي تضارب محتمل في المصالح.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى تشريع وطني واضح، يحدد إطارًا قانونيًا صارمًا لمنع أصحاب المواقع السيادية من شغل مناصب في مؤسسات أو شركات قد تتقاطع أعمالها مع مهامهم السابقة، لفترة انتقالية تمتد لثلاث أو خمس سنوات على الأقل، أسوة بما هو معمول به في كثير من الدول المتقدمة.
فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة الأمريكية، يُمنع كبار موظفي الحكومة من العمل في أي قطاع خاص له علاقة مباشرة بمهامهم السابقة لمدة زمنية محددة، ويخضعون لقوانين “تضارب المصالح الفيدرالية”. أما في فرنسا، فتفرض الهيئة العليا للشفافية في الحياة العامة فترة “تجميد مهني” (cooling-off period) على الوزراء وكبار الموظفين قبل انتقالهم لأي قطاع خاص له صلة بمجال عملهم السابق. كذلك، في كندا، يُطلب من المسؤولين الحكوميين الكبار عدم تولي أي وظيفة في القطاع الخاص لمدة سنة واحدة على الأقل بعد مغادرتهم المنصب، حفاظًا على نزاهة المؤسسات العامة.
كما نقترح أن يُشترط على كل من يتولى موقعًا سياديًا في الدولة أن يوقّع – قبل مباشرته لمهامه – على تعهد أخلاقي وقانوني بعدم الانتقال إلى القطاع الخاص في المجالات المتصلة بعمله السابق إلا بعد مضي الفترة القانونية، على غرار ما يتم في إشهار الذمة المالية.
وفي الوقت ذاته، لا بد من ضمان حقوق هذه الشخصيات، وتوفير حياة كريمة لهم بعد تقاعدهم من خلال أنظمة تقاعد عادلة ومجزية، تقدّر حجم المسؤولية التي تحملوها، وتحفظ كرامتهم بعيدًا عن الحاجة لأي ارتباط قد يُستغل لاحقًا.
إن ما نطرحه هنا هو دعوة لتعزيز ثقة المواطن بمؤسسات الدولة، ولتحصين الإرادة السياسية من أي شبهات أو ضغوط غير معلنة. فحماية الدولة من تضارب المصالح لا تقل أهمية عن أي عملية إصلاح أخرى، بل هي ركيزة أساسية في بناء دولة القانون والعدالة والفرص المتكافئة.