أ.د. خلف الطاهات
حسناً فعلت الدولة الأردنية، بكل مؤسساتها وهيئاتها، منابرها الإعلامية، وأذرعها الشعبية والرسمية، حين أطلقت أوسع حملة إعلامية ترحيبية بالمنتخب العراقي الشقيق، قبيل أيام من وصوله إلى عمان لخوض مواجهة كروية في تصفيات نهائيات كأس العالم.
كانت الحملة في مضمونها أكثر من مجرّد ترحيب بروتوكولي، بل كانت تأكيداً على ما بات معروفاً ومُترسّخاً عن الأردن بقدرته على إنتاج خطاب إعلامي عقلاني، تصالحي، محسوب الأهداف، متوقّع النتائج، لا ينزلق إلى ردود الأفعال ولا تأخذه العواطف الهوجاء بعيداً عن ثوابته السياسية والاجتماعية.
وما من شك أنّ هذه المبادرة الرائدة، أياً كان مصدر التوجيه بها، إنما تُعبّر عن يقين راسخ لدى المراقبين والمتابعين بأنّ الدولة الأردنية، قيادة ومؤسسات، لا تتحرّك في علاقاتها وملفّاتها الإقليمية والدولية تحت وطأة الانفعالات أو نزق منصّات التواصل، بل تتحرك وفق مصلحة وطنية عُليا تُغلِّب العقل على العاطفة، وتُقدّم الثابت الاستراتيجي على المواقف الآنية المؤقتة.
لقد اشترك في هذه الحملة كبار الصحفيين، ونخبة نجوم منتخبنا الوطني، وروابط المشجعين، ومنصات الإعلام الرسمي والخاص، ووزارات وهيئات متعددة. كانت رسائل الترحيب حاضرة في شوارع العاصمة، وعلى الشاشات، وفي الإذاعات، ووسائل التواصل، بل حتى في المطار الذي شهد استقبالاً شعبياً قلّ نظيره. هكذا تصرّفت الدولة من موقعها الأخلاقي والقيادي الذي يرفض الانجرار إلى المهاترات، ويتجاوز الفتن، ويُجهض محاولات الاصطياد في المياه العكرة.
لقد أراد البعض وعبر حسابات وهمية ملوّثة بخطاب طائفي مأزوم، ومنذ شهور طويلة وباصرار متعمد، أن يزج الأردن في مواجهات افتراضية لا طائل منها، إلا إيقاظ الفتنة وزرع الكراهية العابرة للحدود. لكن الرد الأردني جاء حازماً، راقياً، واثقاً. ردٌّ تمثّل في تكثيف النشر الإعلامي الإيجابي، وإنتاج بودكاستات وفيديوهات تفيض بالود والتقدير للضيف العراقي، وفرض القانون في ملاحقة كل من تجاوز الحدود الأخلاقية والحقوقية، وأياً كانت صفته أو جنسه، في رسالة واضحة ان العلاقة مع العراق ليست موضع نقاش ولا محلّ عبث أو مساومة.
ففي قاموس الأردن، الوطنية لا تعني التهجم على الشقيق، ولا تُبرّر المساس برمزية الدول، وتاريخها، حتى لو كان ثمة خلاف أو سوء فهم. فالعراق، بتاريخه المجيد ومكانته الراسخة، أكبر من أن يُختزل في خطاب متشنّج أو مشادة إلكترونية بين من لا يمثلون أحداً. فالدول التي تحترم نفسها، تحترم صداقاتها وتحالفاتها. والأردن كان ولا يزال من أكثر الدول حرصاً على صيانة علاقاته الدولية، فكيف إذا كانت العلاقة مع العراق، الجار والسند، ورفيق الدرب في تاريخ مشترك من المواقف والمصير؟!
وفي المقابل، لا يمكن تجاهل موقف الأشقاء في العراق، من كتّاب وإعلاميين ومثقفين ورياضيين، الذين رفضوا خطاب الإساءة، وكانوا صوت التعقل والحكمة في لحظة التباس. لهم منّا التقدير والعرفان، على ثقتهم بالأردن، وتفهّمهم لدوره ومكانته في إقليم يعج بالاضطراب، وتضيع فيه البوصلة أحياناً.
نعم، ساعات وتنقضي المباراة، لكن الأهم أن تبقى العلاقة بين الشعبين هي المنتصر الحقيقي. لقد أراد الأردن لهذه المباراة أن تكون مناسبة لتعزيز الأخوة، لا ميداناً لصبّ الزيت على النار. وأرادها درساً في السمو الوطني، قبل أن تكون رسالة لأي جهة كانت.
مرة أخرى، هي مبادرة موفقة، ورسالة سياسية وأخلاقية عميقة، وصلت إلى من يعنيه الأمر. ويبقى الدعاء بأن يُوفَّق النشامى وأسود الرافدين في تقديم أداء مشرّف، يليق بتاريخهم وجوارهم الطيب، فالمباراة ستنتهي، لكن العلاقة بين العراق والأردن لا تنتهي، لأنها علاقة أصل، لا فصل.