
د. عبير الرحباني
ففي خضم الفاجعة حين تخنق رائحة الكحول السامة “الميثانول” الأرواح وتفجع البيوت.. خرجت فئة من مجتمعنا ليست بالصوت المؤازر أو الكلمة الطيبة.. أو محاولة الوصول للأسباب والأهداف التي جعلت أصحاب تلك المصانع بتصنيعها وبيعها .. أو ما إذا كان السبب مقصود أو بهدف الوفرة الاقتصادية … بل أن هذه الفئة السلبية من المعلقين على مواقع التواصل كانت معظم تعليقاتهم سخرية جارحة وتعليقات مسمومة لا تقل سمّا عن المادة القاتلة نفسها..
مات شبابٌ لم يحققوا أحلامهم بعد.. وأُغمدت أحلام في نعوش مبكرة.. ربما لم يشربوها ليسكروا .. ربما كانت مجرد عادة أو إدمان .. ربما كانوا يتناولون الكحول لكنهم لم يحاولوا إيذاء أحد أو الإساءة لاي أحد … بينما اختار آخرون أن يتحوّلوا إلى قضاة وجلّادين يتناسون أن خلف كل ضحية أما تبكي.. وأبا يتحسّر.. وأصدقاء عاجزين عن التصديق..
لسنا هنا في صدد أن لنبرّر.. ولا لندافع عن أخطاء ارتُكبت.. بل لنتذكّر أن إنسانيتنا تُقاس في أصعب اللحظات.. حين نملك أن نطعن فنختار أن نضمّد.. أن نشمت فنختار أن نصمت.. أن نحاكم فنختار أن نترحّم..
المأساة أكبر من تعليق.. والوجع لا يحتمل مزيدا من التلوث الأخلاقي.. فلنحترم الموت.. على الأقل..
فمؤلم حين يُصبح الألم سخرية.. ويُقتل الوطن مرتين.. تخيلوا أن الذين تسمموا منهم اجانب قاصدين السياحة في وطننا ..
ففي وطن نحلم بأن يكون مقصدا للسياحة.. وواحةً للأمن والحياة.. صُدمنا ليس فقط بما حدث من وفاة أرواح بريئة بسبب مادة كحولية سامة.. بل صُدمنا أكثر من موجة التنمّر والسخرية التي أعقبت الحادث.. وكأن الموت صار عرضًا ساخرًا في مسرح التعليقات الإلكترونية..
نعم.. الحادث أليم.. والجهات الرقابية تتحمّل مسؤوليتها.. لكن ما هو أشدّ إيلاما أن يتحوّل بعض أبناء الوطن إلى جَلّادين لا يرحمون.. يوزّعون الأحكام الأخلاقية على الضحايا.. ويقررون اين سيكون مصير هؤلاء الذين كان نصيبهم بالمادة السامة.. وكأن المعلقين على مواقع التواصل ملائكة بلا خطيئة..
نسي البعض أن الإنسان يخطئ.. وأن الخطأ لا يعني أن نُعدم صاحبه مرتين: مرة بالموت.. ومرة بالشتم والتجريح…
فأي سياحة ننتظرها إذا كنا نحن من يشوّه صورة وطننا؟
كيف نروّج للإنسانية والدفء ونحن نفتقد الرحمة في أبسط المواقف؟
السائح لا يبحث فقط عن الآثار والطبيعة.. بل عن الوجوه التي تستقبله.. عن مجتمع يعرف كيف يواجه المصائب لا بالسخرية.. بل بالتضامن.. والمحبة والرحمة..
الذين رحلوا ليسوا ارقاما… بل كانوا أحلاما. وربما زوارا لمدينة أردنية أرادوا أن يحتفلوا فيها بالحياة.. فانتهى بهم الأمر ضحايا للغش والإهمال..
أما المنتقدون. فليتذكّروا أن الكمال لله وحده. وأن تصيّد السقوط لا يجعلهم اطارا.. بل يكشف جفافهم الإنساني..
في هذا الظرف الحزين لا نحتاج إلى عبارات التوبيخ.. بل إلى مراجعة للضمير.. وإلى كلمة ترحّم تحفظ ما تبقى من صورة مجتمعٍ نتمنى أن يكون حضنا آمنا للناس.. لا مقصلة جديدة