جهاد المومني
كنت كاتباً يومياً في جريدة الدستور لعدة سنوات أواخر التسعينيات، ولم انقطع عن الكتابة فيها حتى بعد أن انتقلت الى العمل في مكان آخر، بقيت على وفائي للدستور ومحباً لها حتى يومنا هذا الذي تشهد فيه الصحيفة مستوى مهنياً متطوراً وتواصل التحلي بالشجاعة التي ميزتها دائماً وجعلتها ملاذاً لمن ضاقت بافكارهم المنابر الاخرى، ولقد تميزت الدستور دائما بانها ليست مجرد صحيفة تنشر الاخبار والاراء والافكار، وانما صحيفة تملك رسالة واضحة وتملك الموقف الذي طالما جلب لها وللقائمين عليها المتاعب.
عملت في الدستور ونشرت على صفحاتها احسن مقالاتي واكثرها جرأة في الاوقات الاصعب بالنسبة للأردن، ومارست كغيري من الكتاب في ذلك الزمن الدقيق الحرية المسؤولة دون ان اغفل عن حدود المصالح الوطنية أين تبدأ وأين تنتهي، كتبت بسقف عال واحيانا عال جدا، وكانت الدستور بمثل شجاعتي بل وأكثر شجاعة في بعض الاحيان، فنشرت مقالاتي بما فيها تلك التي كنت انا شخصياً أخاف من تبعاتها واحسب الف حساب لهواتف العتب الصباحية من بعض المسؤولين عندما تضيق صدورهم بمقالة او بسطر منها، وترتب على شجاعة الدستور أن الرقابة على ما تنشر اصبحت اكثر صرامة واحيانا أكثر قسوة ، فصارت المقالات ومن بينها مقالاتي تخضع للرقابة وللقصقصة، وفي كثير من الاحيان الى المنع ولست اعرف اذا مر غيري من الكتاب بمثل هذه المعاناة ام لا، ولا زلت اذكر كلمات الاستاذ محمد التل قبل أن يصبح رئيساً لتحرير الدستور عندما كان يهاتفني ويقول لي بجديته المعتادة ( اكتب غيرها ) حتى أنني مرة كتبت مقالة وصفته بها بالجندرمة، هو ايضا كان شجاعاً بحذر فنشر ما استطاع تمريره من تحت عيون الرقابة، وذات مرة كتبت مقالا خرق السقف المسموح على ما يبدو وكان بعنوان ( انا لا اشعر بالخزي ولا بالعار وانما بالحزن فقط ) وذلك على اثر الحادثة الشهيرة التي وقعت في منطقة الباقورة المستعادة عام 1997، فاتصل بي المرحوم المعلم محمود الشريف ودعاني الى مكتبه، وعندما حضرت طلب مني بأدبه المعهود رحمه الله قائلا ( غيب شهر ما تكتبش خالص…خذ اجازة يا راجل وارتاح )، ولما استفسرت عن السبب قال لي أن مقالك ازعج جلالة الملك الحسين رحمه الله وقد طلب من رئيس الوزراء اغلاق الصحيفة، وانتهى الحديث عند هذا الحد ولم يعد من مجال للتفاوض او النقاش، غادرت في اجازة اجبارية وبعد عدة ايام تلقيت اتصالا آخر من طيب الذكر محمود الشريف واخبرني ان بامكاني العودة الى الكتابة من جديد ثم دعاني مرة اخرى الى مكتبة، وهناك اخبرني بأن المغفور له الحسين ملك وانسان وصاحب قلب كبير ولم يقبل ان تغلق صحيفة تعيل أكثر من مئة عائلة، وطلب مني العودة للكتابة ولكن بحذر ليتبين لي ان الكاتب المرحوم محمد طمليه قد شملته اجازة اجبارية ايضاً ولكن لسبب آخر.
اردت من هذه القصة أن أبين الى اي درجة كانت الدستور جسورة في الاوقات التي تطلبت الجسارة والوقوف مع القضايا الوطنية والقومية فكانت الصحيفة الضرورة وليست مجرد اضافة الى الصحف التي كانت قائمة وجميعها صحف شجاعة وقفت مع الوطن في السراء والضراء ونشرت مقالات جريئة لي ولغيري من الكتاب.
واليوم وانا ثابت على وفائي للدستور كقارئ متابع لها وكاتب احيانا عندما لا استطيع حبس فكرة خطرت لي او شعرت بالحاجة الى الانضمام مجدداً الى رفاق السلاح من عسكر الوطن كما كنا دائماً، فان شهادتي بالدستور مجروحة – كما يقال – لكنها شهادة حق يتشاركها معي المهتمون بقضايا الوطن وهمومه واخباره، هؤلاء يتفقون على أن الدستور لا تزال الصحيفة الضرورة وصاحبة الموقف والرسالة، وقد قطعت شوطاً لافتاً بتضاعف اعداد متابعيها في زمن تعيش فيه الصحافة الورقية المأزق الأكثر حرجاً في تاريخها المتمثل بالبقاء او الزوال، ويسجل للدستور اليوم انها ما زلت الكتيبة المتقدمة على جبهة الدفاع عن الاردن النظام والوطن والانسان دون ان تغفل عن قضايا الامة واوجاعها، وبمناسبة احتفالات العزيزة الدستور بالذكرى الخامسة والخمسين لميلادها، لا يسعني الا ان احيي القائمين عليها زملائي الصحفيين والكتاب والاداريين وفي مقدمتهم الاستاذ مصطفى ريالات رئيس التحرير الذي كان احد جنود الاسبوعيات في زمنها وتشرفت بزمالته واعرف قدراته ومحبته لمهنته وقد انعكس ذلك على صفحات الدستور منذ توليه رئاسة التحرير فيها.
تحية لجريدة الدستور في عيدها، وتحية لكل العاملين فيها متمنياً لها ولهم دوام التقدم والازدهار لتبقى دائماً في الطليعة همها من هموم الناس ومصلحتها من مصالح الوطن.