نضال القاسم
حين نتحدث عن محمد علي فالح الصمادي فإننا نتحدث عن كاتب وأديب ومثقف وناشط ثقافي واجتماعي ملتزم، وطنياً وفكرياً وأدبياً، له حضوره على الساحة الثقافية الأردنية، ومشاركاته في العملية الابداعية والانشطة الثقافية المختلفة. إنه مسكون بمدينته الأثيرة عجلون، التي تسكن روحه وقلبه وعقله، وما يميز إبداعه الأدبي هو بساطته، ونعومته، ورقته، وجمال ألفاظه، وتدفق صوره، ووضوح رؤيته، الى جانب الالتزام الفكري والطبقي المنحاز ابداً لهموم شعبه وقضايا المسحوقين والكادحين والفقراء بإنسانية أصيلة راقية. وتمتد معرفتي بمحمد الصمادي إلى ما يزيد عن ربع قرن. ظل فيها محمد صديقاً وفياً كل هذا الزمن، وحيث أكون ويكون نتواصل، ولا أظن أن هناك مثقفاً أردنياً بسعة ثقافته المتنوعة، وحيويته الذهنية الباهرة وعفويته العذبة الآسرة، إلى ذلك فهو مبدع متعدد المواهب، فهو قاص ومصور فوتوغرافي وصحفي عاينت أعماله الإبداعية والفوتوغرافية واقع الحياة المعاش بكافة تفاصيلها وتجلياتها.
وقد استطاع الصمادي أن يوجد لنفسه أسلوباً فريداً في الكتابة، فجمع بين الأسلوب الصحفي والأدبي، واستطاع بسلاسة أسلوبه وبرشاقة كلماته أن يصل إلى أوسع قاعدة في الجماهير على اختلاف طبقاتهم، لم ينس أحداً في مقالاته، لكن همّهُ الأول كان التعبير عن معاناة الطبقات الفقيرة التي ترزح تحت ضغوط الحياة اليومية، فمن بينهم كان يختار موضوعاته التي تصف في المجمل شظف العيش ومرارة التجربة، في ظل حياة يومية محكومة ببؤس التخلف الاجتماعي وقسوة الظروف الاقتصادية.
وقد صدر للصمادي سبع مجموعات قصصية هي: “الحب للجميع والدعوة عامة” و “الأرض الأولى” و”شذرات وقطوف” و”ثرثرة”، و”الأرض الثانية” و”يوميات ميت على هامش الحياة” و”حنين وسبع أخريات”.
وقد إتكأت هذه الأعمال في المجمل على الاسلوبية الرمزية التي تعاين الواقع بلغة بسيطة، وتحكي عن حالة الإنسان الإجتماعية والإقتصادية والثقافية، أما من الناحية المضمونية ففي أعماله دعوةٌ للإحساس بأوجاع الآخرين ولمس جراحهم ومشاركتهم معاناتهم اليومية، وكثيراً ما تناولت أعماله العلاقات الإنسانية التي تحكمها المصالح والخروج عن المألوف والإتجاه للخيال لتغيير الواقع.
ويمكن القول إن أعمال محمد الصمادي قد أعادت رسم الواقع، بأسلوب فنتازي، من خلال خرق البنية التجريدية لذلك الواقع بجعل اللاواقع واقعاً، من خلال إعادة رسمه بصورة أكثر دلالة من خلال البحث عن الركيزة الأساسية التي يستند عليها ذلك الواقع.
ولا أكاد أعرف من المصورين الفوتوغرافيين في الأردن مثيلاً وشبيهاً بالصديق محمد الصمادي في جاذبيته الآسرة للناس على اختلاف ثقافاتهم ومشاربهم أو جنسياتهم، فهو يتميز بقدرة فائقة على التقاط المواقف المليئة بالمتناقضات والتي تتيح له أن يمارس براعته في السخرية اللاذعة، ولديه قدرة فائقة على استنطاق المسكوت عنه في حنايا المنعطفات الانسانية المعتمة بصورة تعكس السياق الواقعي للأحداث.
ومحمد الصمادي كما أراه قاص في المحل الأول، وهو يعد باعتقادي من أبرز ممثلي المذهب الواقعي، حيث يتركز اهتمامه على الطبقات الشعبية المسحوقة المهمشة، ويتبدى هذا في مجاميعه القصصية، والحق أن انقطاعه عن ممارسة القصة القصيرة وانصرافه إلى ألوان أخرى من الأدب والصحافة والتصوير الفوتوغرافي قد كان خسارة كبرى حاقت بهذا الفن الجميل ولكنه أيضاً ناشط ثقافي بارز وأحد أبرز المصورين الفوتوغرافيين في الأردن.
ولا تقف مشكلة الشكل أو النوع الأدبي حائلاً أمام محمد الصمادي في التعبير، فهو لا يتبنى قول المحدثين أو ينساق وراء تنظيرات جافة معقدة عن القصة ولغتها، لأن ما يشغله عن هذه الضبابية هو وضوح هدفه والاتجاه مباشرة الى الوجدان الذي لا يفهم سوى طريق واحد هو طريق الكلمة الصادقة والصورة الذكية الدافئة المعبأة بظلال المعنى.
ولم يشأ محمد الصمادي أن يكتب تجربته بأسلوب تقليدي، خوفاً من تسطيح التجربة وإدخالها في دهاليز الرصد التسجيلي للوقائع، فاختار الطريق الأصعب ولكنه الأجدى فنياً، المتمثل في الكتابة التي تستعين بجماليات اللغة وغناها للتعبير عن قسوة المكان وفقره، ولإظهار حجم هذه القسوة وهذا الفقر منظوراً إليهما من زاوية جمالية متعالية عليهما من جهة منصهرة فيهما من جهة أخرى.
أما في قصصه وأعماله الفوتوغرافية فقد كان الصمادي حريصاً على التنوع وتعدد الصور، فهناك تصوير للبشر ولأعماق نفوسهم ولردود أفعالهم حينما يكونون أمام لحظات وجودية حاسمة تضطرهم إليها حياة قاسية، وفيها رصد للمشاعر المكبوتة جراء التخلف، وبخاصة حينما يتعلق الأمر بالمرأة وبالموقف الذكوري منها.
وتزخر معظم، إن لم تكن غالبية كتابات محمد الصمادي بتعدد أشكال وألوان التهكم والتندر، السخرية والاستهزاء بالتصريح أو التلميح أو التعريض، اللجوء إلى الذم في قالب المدح أو المدح في قالب الذم، بعبارات بسيطة سلسة يسهل معها فهم المقصود ومقتضى الحال من الوجود، بحيث يتعذر عليك أن تتلمس قذفاً أو سباً مباشراً اثباتاً أو حتى نفياً، أو حتى طعناً وخدشاً للحياء العام، عن طريق استخدام بعض الألفاظ النابية، فهو يعي تمام الوعي أن فعل الكتابة مدخل أساس لنقد الذات والمجتمع اعتقاداً وسلوكاً وممارسة، وأن فعل الكتابة أيضاً، مساحة ضرورية للحرية حين تسمح بتعدد الأصوات والمواقف واللغات، بل حين تستطيع إنشاء العالم وبناءه من فـراغ.
هذا هو محمد الصمادي الذي يخلط الهزل بالجد ويأتي بالمضحكات من خلال المقبضات بأحاديثه ونكاته رقيقة العبارة، وهو القاص البارع الذكي، جيد الذاكرة، يعتمد على لغة جريئة صريحة بين العامية والفصحى، وعن طريق استعراض بعض مفرداتها استطاع مسايرة أمزجة العوام والخواص، وبمثل هذه العبارات الطيبة وأسلوبه الكتابي البعيد عن التكليف والتعقيد والتعثر اللفظي، انتخب محمد الصمادي مفرداته وكلماته بدقة بالغة أسهمت في الدلالة عمّا يُراد التعبير عنه.