
بسمه الحجايا
لم يكن الغياب عن الكتابة خيارًا سهلًا، ولم يكن ابتعادي عنها رفاهية فكر أو لحظة تأمل في زمن يسمح بالتأمل. لقد توقفت عن الكتابة منذ اشتد العدوان على غزة، لا لقلّة ما يُقال، بل لفائض ما يؤلم. في وجه هذا الكمّ الهائل من المذابح اليومية، والانتهاكات الصارخة، لم أعد أرى في الكلمة نافذة تنفذ منها الحقيقة، بل صارت الكلمة في عصرنا هذا مشكوكًا في صدقها، مستهدفة في معناها، ومراقَبة في مسارها.
لقد كانت وسائل التواصل الاجتماعي، يومًا ما، منصّات تعبير وحرية، لكنها في السنوات الأخيرة، لم تعد إلا أدوات تحكّم، تدار وفق أهواء خوارزميات لا ترى وجع المقهورين، ولا تُعير انتباهًا لأصوات تُنادي بالعدالة. لم أكتب لأنني شعرت أن كلمتي باتت أسيرة في يد عدوّ يملك أن يطمسها، أو يُبتر معناها، أو يجعلها تُحذف قبل أن تصل إلى من يحتاج أن يسمعها.
كثيرةٌ هي المحاولات التي قام بها صحفيون وأدباء في العامين الماضيين للدفاع عن الحق الفلسطيني في وجه حرب الإبادة، غير أنهم واجهوا تضييقًا، وملاحقات رقمية، وتقييدًا للرأي، بل وتعتيمًا مقصودًا على كل ما يُظهر جرائم الاحتلال بوضوح. لم تكن المشكلة في ضعف الصوت، بل في أن الصوت حين لا يُعجب الكيان المسيطر على المنصات يُخرَس فورًا، بلا تفسير، ولا تبرير.
هذا، إلى جانب الحقيقة المُرّة الأخرى: لم يعد الإنسان في هذا العصر يقرأ. باتت المادة المكتوبة تخسر أمام مشهدٍ سريع، أو “ستوري” لا تتعدى مدته ثوانٍ معدودة. المقال الطويل لا يُقرأ، والوجع العميق لا يُتابَع، والحقيقة الكاملة تُجزّأ لتناسب حجم شاشة الهاتف لا حجم الكارثة.
في ظل كل هذه الظروف، فقدت الكتابة معناها كوسيلة تأثير، فاخترت التوقف، لا ضعفًا، بل احترامًا للكلمة التي لا أقبل أن تُهان أو تُختزل في صورة أو تعليق.
ولكن، رغم هذا كله، لا يمكن للكاتب الحقيقي أن ينفصل عن قلمه طويلًا. الكلمة ليست هواية، بل قدر والكتابة، حين تنبع من وجدان صادق، لا تموت، حتى لو صمت صاحبها مؤقتًا. اليوم، أعود لأكتب، لا لأن الظروف تغيّرت، بل لأن قلبي لم يتحمّل أن يبقى شاهدًا صامتًا.
أكتب لأنني أومن أن هناك من ما زال يقدّر الكلمة، من يبحث عن الحقيقة وسط فوضى العناوين السريعة، من ما زال يقرأ، ويتألم، ويُفكّر.
أكتب، وأعتذر من القارئ الذي انتظر، وسأل، وتوقّع. لم أتأخر عنكم إلا لأنني كنت أبحث عن جدوى للكلمة، عن نافذة لا يشرف عليها العدو، عن فسحة حرّة أقول فيها ما يجب أن يُقال، لا ما يُسمَح أن يُقال.
أنا هنا الآن، لأنني وجدت في الصمت خيانةً لا تُغتفر. وسأبقى أكتب، ما دام في الصدر حبرٌ، وفي القلب وطنٌ، وفي الذاكرة وجعٌ اسمه فلسطين.