
أ. عمار البوايزة
هكــذا يصحــو كل يومٍ ، يمشي على رُموشِ سُفُــوحِها ، ويحملُ تنهُّــداتها وصَخَبَ ليلِهــا ، يُداعبُ عَينيها الغارقَتينِ في سُباتِ الرَّوابي الفَسيحَة ؛ يَلتَهمُها فُتُـورُ الوقتِ وقَلقُ السَّاعات ، وعناقيـدُ الظَّـلام تَقرُصُ خدّيها ، وتَرحلُ بأنفاسِهَا وإ بين إسراءِ الرُّوحِ ومِعراجِ تستثيرهُ ابتسامتها المغســولة بأباريـــق الحَــزن ، وتأخــذه مواقــدُ الأمــلِ الدافقِ من مؤقِ عينيها إلى عالمٍ بعيدٍ من الخيـــال ، يمزجهُ مع الصبحِ همسٌ دافيء ، فلا يخدشُ حياء كُحلها بسؤال ، ولا يسرقُ من عينيها موّال.
هكــذا يُطــاردهُ بنفســجُ أنفاسها حينما يَخنقُ رُوحُها المغيب ، ويَفقـدُ عِطـرُها المَسلوبُ مِن بين أناملها ومن تحت وَجنَتيها بهجــةَ التأنّقِ والتّألّق ،؛ فيَمتطـي صَهوة الطّريق المُدلهمِ المَمتَـدِّ على أجنحَة الشَّفق الضيقة ، يَمضي مُحتضناً جُرعَة ألــمِ الفُراق وفُراقِ الألــم ، يترك وراءَهُ نَهَـارَها في مَحطّـات الشُّروق ، ويُغادرُ طُيوفَها والقلائدُ والمَساجدُ والمَعابدُ والعُيونُ المَخمليّة ؛ آمِـلاً أنْ يأتي يَومَاً بحفنةٍ مِن تُراب الدّار يَغسلُ بها جَبينها الظّامئ ، أو يَجبُرَ كُسْـورَ القَصـائدَ الناعمة التي هزّت الرَّيح أفئدتها ، وتركتها على مَفاصلِ الدُّروبِ فاقدة الإتجـاه ، تنسجُ خِيامَاً للحُبّ ، وتَنقشُ حُلمُها الجَميـلُ على خَرائطِ الزَّمَنِ المُلبّــدِ بالليلْ.
في كلِّ ليلـةٍ تجولُ في خاطِـره حكاياتُها والفَاجعات التي تَعزفُها للخَلائق في كل يومٍ بثوبِ حدادٍ وكَفــنٍ جديد ، ويمشي إليه هديلُها وقد مَلأها السُّرور وهدّهَا الفُـراق ؛ في هذه الأثناء تَحضُره ابتسامة السّوقِ المُزدحم بالشّيب ، وأصْواتُ البَاعـة الشّجيّة المُتحشرجة ما بين نداءات قوتٍ وغذاء ، وصَرَخات نَصـرٍ وإبـاء.
في كلّ ليلـــة يَطوفُ مُدُنَها وحَواريها المُدجّجـة باليُتْــمِ والرِّثـاء ، وبَساتينَها المُزهِـرةَ بالطُّفـولة والنّـدى ، وما جَفَّ قــذىً بعينيها مُذ خلقت ؛ يقظُّ مَضجَعُه هوى عُشَّاقها ، فّتخشعُ أحلامُهُ الثقيلة على بوّاباتِ الرَّاحلين منها إليها ، ويّخلــو المُوحِشُ المُبهــمُ البهيمُ إلا منه ، ويذهبُ إلى أبعدِ ما تذهبُ إليه الشَّمس ، فلا نارٌ ولا نُورٌ ولا حجارة.
لم يفاجئه هَديلُ الحَمـام على مَنابِرها وقِبابها وفي سَاحَاتها في الغَسَقِ ، ولا صَرَخاتُ الثَّكالى والأرامِل وأنينُها يَنسَابُ من بين ثُقُوبِ النَّوافذ ، ولا زَمجَرة “الشّهادتين” ينطقهما بصَوته الأجَشِّ كَهلٌ على عَتبةِ الوضوء كأنَّها الرَّعْـدُ يفتُقُ السَّمـاء ؛ لم تزلزلهُ الخُطوبَ التي يتّمت تينَهـا وزَيتُونَها واستباحت كُرومَها ، ولا نداءات أسوارِها العاليــة التي يَطويها الحُزنُ الدَّفين ويشدُّ بُنيانها الدمُ الطَّاهرٌ ولا استغاثة المِحرابِ الذي يَرقُـدُ خَاليَاً إلا مِن وعـدِ الله “اللهُ أكبر” ؛ لم يكُ يَومَاً جَاهلاً سرّ السِّنـين ، لكنَّـهُ يحتضنُ في صَدرِهِ شَـرَارة انتصارٍ ، مُقسِمَاً أن تأتي السُّنون يومَاً لِتمضي على الوُرودِ ضَحوكةٌ.
تَتَقـاطعُ أصواتُ المَآذنِ وأجْـراسِ الكنائس في فَضَاءاتِها المُترامية الطَّالعَةِ مِنْ وَجَعِ الـدُّجَى ، فَتُرطّبُ وجهها الأغَــرَ العَامرَ بالنقاءِ والبَهـاءِ ، وترتَحلُ نَسمَـاتُ غُصُونِها الكئيبةِ بَينَ المَسَاكِنِ والأماكِنْ ، ويَجْتاحُها في مِثل هذه اللحَظاتُ وُجُـومٌ وزَمْهَـريرٌ مَكبوت.
لا يزالُ على أريكَتِهِ بين توجّسٍ وأحاسيسٍ غريبةٍ تلاحقه ؛ يُطعَـنُ في صَميمِ أطلالهِ ، وتُؤسَـرُ آمَالهُ وأفراحُه ، حتى جُلُودَ القَصائدِ تُخلَعُ وتَستَشْهِدُ أمامَ عَينيه ، وتُلقى في قَاع المَدينَة ؛ وثَوبُهَا الأبيَضُ الزَّاهي بحبَّات العِنَبِ وبَاقات الزُّهورِ ورائحَةِ البُرتقالِ والتِواءاتِ الدروبِ تعبثُ به رِيشَةٌ مَا أتقَنَت فن الرَّسمِ بعد ، ولا تَعرفُ سِوَى خَطف الألـوان.
كلُّ شَيء يَمرُّ مِنْ فَوقِـه ، السَّحَابُ والضَّبابُ والأحلامُ والأنغام ، إلا القَهْــرُ يَبيتُ مَغرُوسَاً في جَنبيه ، يُجَـدِّدُ فيه الجُـروحَ يَومَاً تِلوَ يوم ، وكلُّ شيء بَــدا حَولهُ قاحِلاً من كل شيء ، إلا القَنَـاديلَ الصَّغيرة التي تَذرُفُ الـدُّمُوع على جُدرانِها الخجِلَة ؛ وكلُّ شيء صَارَ كأنَّهُ لا شيء.
لا تَـزالُ نائِمة على حِجْرهِ لَمْ تَصْحُ بَعدْ ، تُبعْثرُها أحْـلامُ العَابِرينَ وآهَاتِهم ، وتَرتَاحُ في صَـدْرِهَا الأشواكُ ، تَنتَفضُ في لَيلِها آلافَ المَرَّاتِ ، وتَبُوحُ للأقمَـار بِلِـذَّةِ النَّهَـار ، إنَّها انتفَاضَتَهَا لِموعِـدِ اللقَـاءِ ولَحْظَةِ العِنَاق ، الصَّرْخَةُ التي تُغَـرّدُ في كُلِّ أرجَاء الدُّنيا ، صَرْخَةُ الحَقِّ الذي تَنَاثَرَ كَحبَّاتِ القَمحِ في كُلِّ شِبر ولم يَنمُ ، ولا يَقبَلُ رُبَىً غيرَها ليَنمُو ؛ ولا تزالُ نائمَة.
لَم تَغِب عنه أبداً ؛ مَعشُوقَته التي أفنى لأجْلها السِّنين ، ورَاقَصَ البَنَادق والمَدافعَ كي تبقى أنشُودة الألق الذي لَن يَغيبَ ،
إنَّها قضيَّتَهُ وقضيَّةُ كُلِّ العُشَّاق ، بها يَكبرُ الحُبُّ الطاهر ، ويَكبُرُ بالحُبُّ مَعها.