د.حسام العتوم
يصعب على سياسي ودبلوماسي عملاق مثل هنري كيسينجر اليهودي الأصل ووزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق، وهوالذي شارف عمره على المائة عام، ومن مواليد المانيا، إلا أن يكون منحازا لأحادية القطب قبل أن يعلن رئيس روسيا الإتحادية فلاديمير بوتين سقوطها في مؤتمر ( سانت بيتر بورغ ) الإقتصادي 2022 ، وعبور زمن العالمية مكان العولمة، وسيادة نظام الأقطاب المتعددة والمتوازنة، ورغم معرفته العميقة بسلوك بلاده أمريكا السلبي التي قادت ولاتزال الغرب اتجاه التهور في الحرب الأوكرانية عبر ضخ السلاح وبكميات كبيرة، والمال الأسود، والتطاول على روسيا العظمى ورغم العلاقات الدبلوماسية العريقة بينهما، وحجم التبادل التجاري، ومشروع الغاز (2) الخادم لألمانيا ولكل أوروبا، ورغم حاجة أوروبا للبترول الروسي بعد موجات العقوبات الإقتصادية المتتالية التي ألحقت الضرر بأوروبا قبل روسيا المستهدفة، ويبدو أن مؤسسات هامة مثل ( الكونغرس والأيباك والبنتاغون ) وأجهزة لوجيستيا الغرب وقفت ولازالت تقف وراء أهمية إستمرار الحرب بهدف إستنزاف روسيا كما هومعروف في حرب طويلة وعبر إطالة الحرب الباردة وسباق التسلح، وتنظيف الداخل الروسي من المنتوجات الغربية عالية الجودة، والعودة بروسيا إلى العهد السوفيتي من زاوية محدودية ومستوى الانتاج متناسين أن الإنتاج الوطني والقومي الروسي والسوفيتي السابق في طريقه للنهوض والتعافي، وبأن الصين حليفة روسيا الإستراتيجية تنتج وتساهم في حاجات السوق الروسي أيضًا وبجودة عالية وتستورد مادة الغاز الروسي وبحجم يصل إلى 400 مليار دولار، وبأن وجهة روسيا الإتحادية وبكل ما تملك من مصادر طبيعية غنية مثل البترول، والغاز، والذهب، والأخشاب، واليورانيوم، والمعادن، والأسماك، والكفيار أصبحت صوب الشرق .
والملفت للإنتباه في تنبؤات كسينجر بخصوص الحرب الأوكرانية والعملية الروسية العسكرية هوأنها لا تعكس واقع المعركة وأهدافها بالنسبة للجانب الروسي، ويغفل أهداف الغرب الأمريكي وسطها، فمثلا يقترح كيسينجر على روسيا التوقف عند حد 20% من مساحة شرق أوكرانيا لإنهاء الحرب، وكأنه لا يحسن قراءة طيبوغرافيا العملية العسكرية الروسية ( الحرب ) والتي هي إستباقية، تحريرية، وقائية، غير إحتلالية، وجاءت بدعوة من إقليمي ( الدونباس ولوغانسك ) بعد إستقلالهما بقرار شعبي عن الدولة الأوكرانية، وبعد الإرتكاز على ميثاق الأمم المتحدة ومادته رقم 51|7 وبعدما طفح الكيل وبلغ تعداد القتلى من الجانب الشرقي الأوكراني والروسي أكثر من 14 الفا، من بينهم أطفال، وغيرهم قبعوا في الملاجيء، وشردوا إلى داخل روسيا وتعدادهم وصل المليون بسبب تطاول الجيش الأوكراني وفصائل “أزوف” المتطرفة، وبعد أن إكتشفت روسيا مخططا لإنتاج قنبلة نووية، ورغبة غرب أوكرانيا لدخول حلف ( الناتو) المعادي لروسيا في زمن معاصر عرضت فيه روسيا سابقا على ( الناتو ) الإنضمام إليه لإسدال الستارة على الحرب الباردة وسباق التسلح المرهقين للبنية التحتية العالمية، وإكتشاف وجود 30 مركزا بيولوجيا أمريكيا خبيثا على أرض أوكرانيا أهدافه الحالية وقتها إستمرار إنتشار فايروس ( كورونا ) في المنطقة الأوروأسيوية – السلافية – الروسية والسوفيتية السابقة، وإكتشاف الروس لاحقا لعلاقة أمريكا بفايروس جدري القرود المعاصر . وجهود غرب أوكرانية وغربية أمريكية لضم الأقاليم الثلاثة ( القرم والدونباس ولوغانسك ) قسرا لتحقيق أهداف غرب أوكرانية وغربية أمريكية مشتركة في مقدمتها توطين الأسطول السادس الأمريكي في المياه الدافئة وسط البحر الأسود، وإجتثاث الحضور الروسي العسكري والسياسي والإقتصادي وسطهن .
والتنبؤ الثاني لكيسينجر يتحدث عن إمكانية طرد روسيا من الأراضي التي سيطرت عليها في عمليتها العسكرية بما فيها ( القرم )، وتعليقي المتواضع هنا وكأن كسيينجر فعلا لم يقرأ التاريخ، ولم يعرف بجبروت قيادة روسيا الإتحادية للإتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية 1940 1945، وبإصرارهم على رفع علمهم المشترك فوق الرايخ الألماني ( البرلمان ) بعد تسجيلهم لفاتورة من الشهداء تجاوزت الــ 27 مليون شهيدا، ولم يشهد التاريخ المعاصر أن روسيا خسرت معركة خاضتها منذ إنتصارها على الدولة العثمانية عام 1878، وانتصارها على نابليون في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وفي الحرب الجورجية عام 2009، وما تستخدمه روسيا من قوة نار عسكرية في حربها الأوكرانية التي لم تستهدف المواطنين الأوكران أشقاء الشعوب الروسية الشقيقة، وإنما لا تعادل ما تمتلكه من قوة عسكرية غير تقليدية خارقة تجهزها وتطورها دائما لمواجهة أي عدوان محتمل يخطط له حلف ( الناتو) حاليا أو مستقبلا عبر إستعدادات نووية عسكرية ظهرت مؤخرا في أوروبا، وبطبيعة الحال روسيا الإتحادية وحلفها السوفيتي السابق، ومعها الصين، والهند، وإيران لهم بالمرصاد، وروسيا بطبيعتها ومن وسط إستراتيجيتها العسكرية معروف عنها بأنها لا تبدأ حروبها أولا، وترصد الجانب المعادي بدقة وعلى مدار الساعة، وقادرة على الرد على أي هجوم عليها وعلى حلفائها بسرعة البرق وبقوة قل نظيرها، وإمتلاكها للقوة العسكرية فوق النووية مصدر ردع بالنسبة لها لا يحمل أي توجه هجومي ضد أي منطقة في العالم . وليس من سياسة روسيا خلق الأزمات والحروب أو ممارسة الإحتلالات والتاريخ المعاصر شاهد عيان . وإقليم (القرم) أصبح روسيا وإلى الأبد، وإقليمي ( الدونباس ولوغانسك ) أصبحا مستقلين خارج إطار الدولة الأوكرانية وإلى الأبد أيضا .
والتنبؤ الثالث ليكيسينجر تحدث عن إحتمالية العودة بأوكرانيا إلى ما قبل تاريخ العملية العسكرية الروسية بتاريخ 24 شباط 2022 عندما كان الإقليمان ( الدونباس ولوغانسك ) جزءا من السيادة الأوكرانية، وهو من المستحيل، ولقد سال الدم، ووقع الفأس بالرأس، وارتفع صوت الإستقلال في الإقليمين، ولم تعد الأقاليم الثلاثة ( القرم، والدونباس، ولوغانسك ) من ضمن السيادة الأوكرانية، وروسيا بعد حربها التي تطالب لتوقيفها في يوم واحد، إستسلام ( كيف ) في تصريح حديث للناطق الإعلامي بإسم قصر ( الكرملين ) الرئاسي، لن تبقى في الإقليمين ( الدونباس ولوغانسك )، لكنها ستبقيهما تحت مراقبتهما بعد تسليمهما لسلطيتهما الجمهوريتين، ولا تسمح ( موسكو) بأي حديث إقليمي أو دولي يتعلق بإقليم ( القرم ) الروسي . وتوقُّع كيسينجر بأن تقود الصين روسيا في غير مكانه، وستبقى العلاقات بينهما تشاركية إستراتيجية، والإقتصاد وسعة إنتشاره وجودته هو سلاح الصين، والسلاح غير التقليدي فوق النووي المتفوق سلاح لروسيا الإتحادية أكيد .
ويقود الخارجية الروسية سيرجي لافروف، وهو وزير لقصر الكرملين، عملاق مخضرم يتمتع بثقافة سياسية واسعة، وهو من أعلن بأن جدارا حديديا تشكل حديثا بين بلاده روسيا والغرب الأمريكي مع نهايات الحرب الأوكرانية، وبأن روسيا الإتحادية لم تعد تثق بالغرب الذي خدعها وانقلب عليها عدة مرات، ولم تحقق روسيا شيئا من لقاءات وإبتسامات ( جنيف ) رفيعة المستوى السابقة. وإذا شهد التاريخ المعاصر علاقات طيبة بين روسيا وأمريكا وعموم الغرب، وزيارات متبادلة طيبة، فإن الزمن القادم سيكون معبسا في وجه لقاءات متشابهة دولية، وشخصيا أتمنى للعلاقات الدولية أن تتعافي، وأن يعم السلام بين روسيا وغرب أوكرانيا، ومع الغرب، ومع أمريكا تحديدا، ففي نهاية المطاف العالم بيتنا جميعا، ولا بيتا آخرا لنا غيره، والعلم لم يثبت وجود حياة للبشرية في الكواكب المجاورة والبعيدة، ومجرد التفكير بحرب ثالثة مدمرة، والمراهنة على الإنتصار فيها هو محض سراب وخديعة، وسباق التسلح لا يعرف الهدوء، وهو مكلف، وباهض الثمن، ومرهق لشعوب العالم، وكل تفوق عسكري تكنولوجي يتبعه تفوق مقابل، وأجمل ما في الحياة هو الأنسان بكل تأكيد، وحياته غالية .