
فارس الحباشنة
لا أظن أن احدا ينسى أيام الصوم في الطفولة، وكيف بدأ، وكم كان عمره وصفه المدرسي، وماذا كان يفطر، ومع من يفطر ايضا. وقد تنسى اياما وذكريات كثيرة، وتمحى وتختبئ في اركان الذاكرة. ينسى ايام الشتاء وينسى أيام العام، وهي ايام قليلة بذكرياتها تباغت الانسان في حياته، وتحفر في الذاكرة مفاجآت سارة ومحزنة.
تمضي الايام العادية تباعا، ولا يكاد يحس الانسان في الايام. ولكن ايام رمضان والصوم، تسمع وقع خطاها، لا تكاد أن تفلت من الذاكرة. احساس الصائم بالزمن يقاس بالميزان، يختلط الجوع والظمأ، وخاصة في فصل الصيف، ومع كل دقيقة تمر، ويمزج بالمكابدة والسعادة. وعند الغروب يحس الصائم في فرحة، ويحس أنه قطع شوطا من مهمة روحانية، وقد انقضى الشهر بطوله، ويشعر انه يودع ضيفا عزيزا وغاليا، وطيب المقام.
واذكر بوضوح أول رمضانات صمتها، وانا طفل في المدرسة، وصباي الباكر، واول عهدي برمضان. عاصرت رمضان في الصيف والشتاء، وكنت أصوم أياما الى وقت الغروب، واياما افطر بعد صلاة الظهر، واياما أفطر بعد صلاة العصر.
وأحسب اخر الشهر الفضيل كم يوما قد صمت. وأجمع فترات الصوم المتقطعة، أحسبها يوما كاملا، وأخرج بحصيلة الصوم. كنا نتباهى في المدرسة والحارة والقرية بالصوم، وتشعر بالافتخار لانك صائم. لم يكن بعد العمر قد بدأ يقضم اجسادنا، وكما يقضم الفأر قطعة الجبنة.
لرمضان فرحة كبرى، في الولائم والعزائم، واجتماع العائلة على الفطور الكبير.
ونحن الاطفال كنا فرحين في رمضان، وان كنا صائمين او مفطرين نحتفل في الافطار، صلاة التراويح، وبرامج التلفزيون، والسحور، ولمة العائلة، ونجلس على الموائد، نأكل ونفرح، وقبل اذان المغرب نهب الى توزيع الطعام على العوائل الفقيرة والمحتاجة، ونهرع الى البيوت عندما يرفع اذان المغرب داعيا الى « الله اكبر « معلنا نهاية اليوم، ونجلس بعد الافطار مع الكبار، ونتسامر في ليالي رمضان.
وعندما تسمع أذان المغرب تحس أنه موجه اليك وحدك، وان صوتا من المغيب والسماء يخاطب روحك، وكأنه يبلغني بدعوة هابطة من أفق علوي، انه انتصار للروح على الشهوة والغريزة. اذكر طعم التمر والبلح، وعصير «قمر الدين «.وأول ما تفطر على «حبات تمر». وتشرب كأس ماء دافئ. وحين يتزامن رمضان مع فصل الصيف وموسم البطيخ والعنب. تحضر على موائد الافطار فاكهة الصيف، لتسد رمق الصائمين العطشى، ولتروي انفاسهم من حر الصيف. ولا أطيب من ماء «الجرة والزير»، وماء محفوظ في جرة مغطاة بالخيش المرطب.. وماء الابار.. وماء يخالط طعمه رائحة الفخار في الجرة والزير. وفي رمضان هناك اطعمة وعصائر وحلويات مرتطبة بالشهر الفضيل.
القطايف وقمر الدين وعرق السوس والتمر الهندي تختفي طوال العام، ولا تظهر الا في شهر رمضان.
وخيالي الطفولي يأخذني الى ذاك الزمن، وكما أن صور رمضان الآتية من الطفولة، تجر غموضا يأتي من تفسير ظواهر وعادات وتقاليد رمضانية.
للزمان طعم ومذاق، وايام الطفولة والمراهقة حلوة وعفوية ومخلوطة بالمرارة وقسوة العيش، ولها ايقاع عذب على النفس. كانت موائد الافطار بسيطة، ولكن الناس قانعون ومؤمنون، ولا يعرف الناس اشكالا للاستهلاك الحداثي. يأكل على الافطار ما يتيسر، ويصلي المغرب، وينتظر التروايح، ومن بعد يبحث عن سهرة رمضانية، ويتسحر ويصلي الفجر.
لم أكن اعلم ما هو الحال الاقتصادي للاردني في تلك الايام. لكن، اظن انها افضل من الايام الراهنة.
وفي تلك الايام لم يكن يهم الاردني سعر المحروقات ولا فاتورة الكهرباء والماء. واذكر أني بلغت التوجيهي، ولم اكن أعرف من هو رئيس وزراء الاردن ورئيسا النواب والاعيان!
كنا بمعزل عن كل ذلك.. والناس يحسون بالعزة والمنعة، والاطمئنان، والثراء حقا، كان الأردنيون متساوين وينعمون بالعدل وأنا اتذكر رمضان الطفولة استرجع طعما لمذاق رمضاني واشتم روائح للاباء والاجداد، وكلاما مليئا بالحكمة والعبرة، والمحبة.