د.عبدالله القضاة
دولة الرئيس .. المواطنة والعدالة والشفافية
يعيش الأردنيون مُذ تبوّأتَ مَهَمّتك الجديدة حالة انتظار غيرَ مسبوقة وحجم توقعات عالية، غيرَ أنهم على الرّغم من هذا
التفاؤل باتوا يتوجّسون في لحظة ما حالة غريبة يشوبها بعضُ القلق وشيء من الحذر والترقّب المحفوفين باليأس وعدم الاطمئنان؛ ولكنهم سرعان ما استعادوا ثقتهم بك فوصفوك بالحكمة والمسؤوليّة ووسموك بحُسن التصرّف والموضوعيّة. ها أنت تحظى بولاية الحكومة، وها هم الناس ينتظرون منك ما لم ينتظروه ممّن سبقك، وأنت تعلم علمَ
اليقين أنّ الأردنّ بعد تشكيل حكومتك غيره قبل ذلك، وأسباب هذا وذاك كثيرة حتى إنها لا تُعَدّ ولا تُحصى.
ولمّا كنّا نعرفك إنسانًا ذا حكمة ودراية وذكاء وإبداعا، وكنّا وجدناك في مواقع العمل العامّ التي شَرُفَت بكَ لا تفرّق بين أبناء الوطن، ولا تعرف حدودًا للجغرافيا، ولا تميّز بين شخص وآخر إلّا بالعطاء والانتماء، فإنني أستميحُك عذرًا ههُنا في أن أبدأ الحديث عن محاورَ مُهِمّة تحدّثتَ عنها في لقاءاتك وحواراتك، وهي في نظر الجميع مفاصل لا بد منها لبناء منظومة المواطنة والعدالة والشفافيّة ومحاربة جيوب الفقر والفساد، وما أودّ أن أقوله: إنّ مفهوم المواطنة ينضوي في منظومة الانتماء إلى الدولة والوطن، وهو انتماء الفرد إلى ترابه وأهله وجنسه ودمه، يخضع فيه الجميع للقوانين ويتمتعون بالحقوق ويلتزمون الواجبات تجاه الدولة والأُمّة التي ينتمون إليهما، وهو عنصر أساسي يعزّز البناء والعطاء، ويحقق العدالة من خلال الحقوق المدنيّة الأساسيّة المعروفة، والسياسية التي تتمثل في قانون انتخابات عصري يُعيد إلى الحياة الديمقراطية والحزبيّة دورها، ويعطي كلَّ ذي حقّ حقّه في المُساءلة والحقوق والواجبات وتقلّد المناصب الاجتماعيّة والسياسية والاقتصاديّة والثقافيّة.
والحريّة والمساواة ركنان رئيسان في هذه المعادلة؛ إذ ينجم عنهما العدل الذي أمر به االله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، الذي إنْ طُبّق على نحوٍ سليم فإنّ الأمور معه تستقيم وتسير حياتنا في مسار قويم، وبه تطمئن النفوس إلى نيل حقوقها واستيفائها والوفاء استنادا لقوله تعالى: ‘اعدلوا هوَ أقربُ للتقوى واتقوا االلهَ إنّ االلهَ خبيرٌ بما تعملون’، وقول النبيّ، صلّى االله عليه وسلّم: ‘سبعةٌ يظلّهم االلهُ في ظلّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلّه؛ إمامٌ عادل…’.
وكيف لنا أن ننسى وقوله صلّى االله عليه وسلّم: ‘يا أيّها الناسُ، إنما ضلَّ من قبلكم أنهم كانوا إذا سرقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرقَ الضعيفُ فيهم أقاموا عليه الحدّ. وأيم االله، لو أنّ فاطمةَ بنتَ محمّد سرقت لقطع محمّدٌ يدَها’.
ولرؤية أفلاطون في جمهوريته أنّ العدالة الاجتماعيّة تعني أن يحتلّ كلّ فرد في المجتمع المكانة التي يستحقها، ولذلك فمن واجبات المسؤول تحقيق مبدأ العدل مع الجميع حتى تشيع الطمأنينة في النفوس وتنتشر روح التنافس والانتماء والعمل باخلاص، وحينها تختفي ظواهرُ الحسد والتباغض والكره والنفاق والقفز على الرّقاب؛ ولذا، فإنّ سياسة الاسترضاء واحدة من وجوه غياب المواطنة والعدالة؛ إذ أصبحت مع مرور الزمن تقليدًا غريبًا يرتقي الى مرتبة الحقّ، ومن ثَمّ وصل إلى بعض مواقع المسؤوليّة أشخاص يجهلون أساسيات الإدارة والقيادة، ويتّخذون من تلك المواقع مَطِيّةً لتحقيق مصالحهم ووسيلة للوصول إلى أهدافهم، سواءٌ أماليّةً كانت أم جَهَوِيّةً ما جعل من الضّروريّ التصدّي لسياسة الاسترضاء والتنفيع؛ خاصّة أننا أمام صور ومفارقات كثيرة كانت السبب الرئيسَ في ثورة الناس حين وقفوا في الدوار الرابع. والأمل بكم كبيرٌ، وأنتم أهلٌ للتصدي لذلك، وإنكم قادرون على تحويل البوصلة إلى وضعها الطبيعي؛ إذ لا يمكن أن تبقى هذه البوصلة ضمن مسار محدّد من غيرِ أن تتحرّك تجاه خزّان الموارد البشريّة الحقيقي في بلدنا الحبيب.
انني أرفع صوتي معكم إلى جانب صوت الشرفاء كلّهم في الوطن مطالبين أن تحارب دولتكم بلا هوادة سياسة الاسترضاء والتنفيع؛ كي لا يبقى الانطباع العامّ الماثلُ لدى الناس أنّ الواسطة والمحسوبيّة هما الطريق الوحيد للجلوس على كراسيّ السُّلطة، وهما السبيل إلى تولّي المناصب السياديّة وملء الوظائف العُليا، وهو انطباع وسلوك يجب أن تنهيه بحكمتكم إلى غير رجعة، ومن ثَمّ فلا بدّ من إحياء ثقة المواطنين في المؤسّسات الدستوريّة، وبعث التضامن في نفوس الأفراد الذين لا يكترثون سوى بأنانيتهم الاستحواذيّة. ولتعلم يا دولة الرئيس أنّ كلّ ما نسعى إليه يتلخّص في ألّا نسمع أصوات المحتجّين على غياب العدالة ممّا يتسبّب بالعنف والفوضى، فبلدنا أولى بالنهوض والتقدّم والاستقرار والحياة الفُضلى، وإنّ املنا بكم كبيرٌ في أن تريحوا الوطن من كلّ مسؤول يفشل في وزارته أو مؤسّسته أو جامعته، ويُخفق في النهوض بها وفي جعلها لَبِنَةً من لَبِنات بناء الوطن والإنسان.
ها أنتم تسمعون الأصوات تعلو، بعضها يطالب بالتعديل، وبعضها الآخر يحتجّ، فليكن الاختيار على أُسُس الكفاية والجدارة والخبرة، ولتتذكر أنّ الناس في ظلّ تنامي جيوب الفقر لا يحسبون حسابًا للربح والخسارة، ووطننا أولى بالأوفياء والمخلصين والأنقياء من هؤلاء الذين يسقطون بمظلّات الواسطة، وهذه كما تعلم وتدرك تفرّخ القهر والظلم وتؤدّي إلى غياب العدالة والشفافيّة، ولا أظنّ دولتكم تقبل ذلك؛ فقد بنى الأردنيون عليك آمالاً كبيرة، وعيونهم وقلوبهم تنظرُ إليك منتظرةً التغيير والتجديد ومؤمّلة فيك إعادة الأمور إلى نصابها.
أعانك االله على حمل المسؤوليّة، وسدّد سُبحانه خُطاك. والأمل أن يتجاوز الاردنّ بكم وبحكمتكم ونزاهتكم عُنُقَ الزجاجة إلى الحياة الفُضلى.