الروائي داود البوريني
ذات يوم من شهر آب سنة 1979 ،قررت و عروسي أن نشارك في رحلة جماعية لمدة 4 أيام، تمتد من مدينة أثينا الى مدينة دلفي التاريخية التي تقع على المنحدرات الجنوبية لجبل بارناسوس، وعلى بعد نحو 250 كم منها مرورا بعدد من الحواضر الأخرى ،وما أذكره الآن أن الطقس كان حار جدا وأن الرحلة استهلكتنا صحيا لطول مسارها ،والذي يبدو أنه كان يهدف الى إضاعة الوقت في الباصات عوضا عن الاستمتاع بالطبيعة والمكان .
تذكرت هذه الرحلة لأنه كان علينا في أحد مراحلها الصعود الى مرتفع صعب لمدة 30 دقيقة تقريبا ، وكانت زميلة الرحلة الفرنسية قوية الشكيمة تدفع بزوجها الأصلع السمين تحت أشعة الشمس الحارقة ،رغم معاناته من مشاكل صحية في الصعود ،وفي نهاية المطاف وصلنا المكان المنشود و كان عبارة عن كومة صغيرة جدا من الحجارة الدوارس،التي وعلى ما يبدو أن شخصا مهما في سالف الزمان كان قد قضى ليلته بقربها .
تذكرت هذا إبان كنا نحن أعضاء منتدى خريجي الجامعة الأردنية، و رفيقينا الدكتور أحمد ملاعبة والأستاذ الصحفي أسعد العزوني ، نقف في بلدة سمر الجميلة الواقعة في لواء بني كنانة ،و تحديدا في مقبرتها المشتركة ،حيث يوارى الثرى هناك آلاف من شهداء معركة اليرموك الخالدة ، هذه المعركة الآستراتيجية التي أنهت الوجود الروماني والأوروبي في بلادنا ، وكانت فاتحة خير على أمتنا ما زلنا ننعم فيه حتى اليوم إذ لولاها لما كنا نعيش على اديم هذه الأرض الطيبة.
كم من الناس يعلم بوجود هذه القبور المهملة التي يتشرف ثرانا بضم الآلاف من الشهداء من الصحابة وأبنائهم فيها ؟ هؤلاء الأبطال الذين قضوا بعيدا عن ديارهم وأسرهم وهم يحملون رسالة الاسلام الى العالم أجمع .. ألا يستحق أبطال الأمة من حملة الرسالة إهتماما من وزارة الأوقاف أولا ،ثم من وزارة السياحة ومن وزارة التربية والتعليم ومن الشؤون المعنوية في القوات المسلحة ؟ هل من المعقول أن لايعلم معظم المواطنين حتى بمكان وجود هذا المكان الطهور ؟
غير بعيد عن مثوى الأبطال رحمهم الله، يوجد مرتفع يطل على ميدان معركة اليرموك الذي يبدو أنه قد لاقى بعض الإهتمام لكن اطلاقا ليس بشكل كاف ،فأقل ما يمكن فعله هو إقامة مهرجان وطني سنوي ليوم واحد على الأقل، لتكريم ذكرى أبطال اليرموك بزيارة مقابرهم والعناية بها ،وكذلك بناء نصب يليق بما قدوموه لأمتهم و دينهم وكذلك وضع الشواخص التي تدل على مكانهم .
الجوهرة الثانية في لواء بني كنانة هي أم قيس ، وأم قيس هذه لمن لم يزرها من قبل ،ربما تكون واحدة من أجمل المدن الرومانية التي قد تشاهدها في حياتك ، لكنها للأسف مهملة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، فالحجارة والأعمدة الجميلة ملقاة في معظمها على الأرض ، ومدرجاتها .. شوارعها .. ساحاتها … و قنواتها ،مع أن قلبها ما يزال حيا وربما لو أصغينا السمع قليلا لسمعنا صوت نبضاته التي تعتب علينا تقصيرنا بحقها .
قبل مدة وجيزة نشرت الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي خبرا عن مقهى في عاصمة الهند دلهي يبيع الأوكسجين لرواده ، ليس الهنود فقط هم من يحتاج الأوكسجين ، فهناك ملايين الناس داخليا في الأردن و خارجيا ،ممن يقدرون قيمة الهواء النقي ويرغبون و يستثمرون في سبيل الحصول عليه ، ليس فقط الشواطيء من يبحث عنها الناس لقضاء إجازة ممتعة وصحية وجميلة .. فهم يبحثون أيضا عن الجبال والهدوء والمشاهد الجميلة والطبيعة وملاعب الرياضة والفنون الشعبية.
لا أعتقد أن هناك موقعا لفندق أو مجموعة منتجعات يمكن أن يكون أكثر جمالا من أماكن إطلالة أم قيس على بحيرة طبريا ووادي الأردن ، ولا تنسوا أن الأوكسجين متوفر هناك بكثرة وبدون مقابل ومن أجود الأنواع بعيدا عن أي قدر ولو ضئيل من التلوث .
في رأيي المتواضع أنه اذا أمكننا توفير اسلوب تنقل عملي وحديث ” طرق سريعة ، سكة حديد و مروحيات ” تختصر الزمن بين عمان و المطارات حول عمان و أم قيس و بني كنانة الى ساعة واحدة، أو أقل مرورا بالمدينة الساحرة الأخرى جرش . ونستطيع إقامة منتجعات مناسبة بتكلفة إقامة معقولة ،بعد تأسيس القاعدة التحتية الحقيقية لصناعة السياحة في بني كنانة ،مثل تنظيم و تشذيب القرى المحيطة ببلدتي سمر و أم قيس ،و تسيهل الاتصالات معها ،وعند ذلك سنكون قد أضفنا بناء اقتصاديا مثمرا للمنطقة و للوطن يوفر عشرات الآلاف من فرص العمل ، وهذا هو استثمار الحقيقي الفعال في التنمية وبناء الانسان .