د . عودة أبو درويش
كان دوري في رعي الغنم في يوم من أيّام آخر شهر شباط . سبعة من الرؤوس هي كلّ ما نملك ولكن أبي كان يصمم في أيّام العطل أن يرعى بها أحد أولاده في الأراضي التي تقع شرق المدينة ، لأنّ المراعي ذات العشب الذي تأكله الغنم تكون في الأراضي التي كان يسمّيها الناس شرق السكّة , وأنا كنت أحبّ أن أذهب الى هناك لأرى عظمة الجسور التي بنتها الدولة العثمانيّة وشارك في بنائها أجدادنا ، ثمّ أنتظر حتّى يمر قطار سكّة الحديد يمشي ببطء على خطّي السكّة فتراودني نفسي أحيانا أن الحق به وأركب في آخر عربة يجّرها ثمّ أحجم عن ذلك لأنّي أخاف على غنمي من أن تتبعني ، وكنّ شديدات التعلّق بي وأنا أحبّهن كذلك . وكنت أتصوّر ان اكتشف سائق القطار ركضي وراء قطاره فسأنال عقابا عسيرا منه ومن أبي ، أو هكذا خيّل لي .
ما أن ابتعدت عن طرف المدينة وأصبحت لا أرى أعلى مبنى في حيّ الطور ، وقطعت مجرى السيل الذي يأتي من تلال سمنة ، حتّى هدر صوت الرعد عاليا سبقه برق شديد السطوع وانهمر من السماء ماء ذا حبّة كبيرة وسرعة شديدة ، حتّى أصبحت لا أرى حولي الّا الغنم التي التفّت حولي وكأنّها تطلب منّي أن أحميها وأنا لا أستطيع أن أحمي نفسي من هذا المطر الغزير الذي بلل ملابسي بسرعة . ما كان منّي الّا أن ركضت سريعا باتجاه الجنوب ، ناحية جحر الغولة ، أو هكذا سمّته لي جدّتي التي روت لي قصصا وحكايات ، أغلبها مخيفة ،عن هذا الكهف الصغير الذي حفرته الطبيعة في سفح الجبل والذي تجّر الضباع اليه فريستها فتأكلها هناك وتترك عظامها .
كانت غنمي تجري ورائي الى أن وصلنا باب الكهف الصغير الذي يسمح للإنسان أن يدخله ، توّقفت وانا أرتجف من الخوف ومن الملابس المبللة ، ولكنّ المطر الغزير أجبرني على دخول جحر الغولة ، لأحمي نفسي وغنمي من البلل . استمر هطول المطر ، وبدأ الماء يرتفع في مجرى السيل اذي كان يشرف عليه الجحر وأنا لا أستطيع أن أنظر الى الداخل خوفا من أن أرى الغولة أو الضبع ، الذي حتما سيغتنم الفرصة السانحة لينقضّ عليّ ويأكلني ، أو يبدأ بإحدى الغنم ويتركني أموت من خوفي وأنا أنتظر أن ينتهي من التهامها ليلتهمني بعدها . وتذّكرت كلّ القصص المخيفة التي كان الأطفال الصغار يتناقلونها عن جدّاتهم وكيف أنّ من يدخل هذا الجحر لا يخرج منه أبدا ، وبأنّ في الجحر غولة تنتظر المساء لتأكل الأولاد الذين لا يطيعون أباءهم وأمّهاتهم . اطمأننت قليلا لأنّي كنت مطيعا لوالديّ ولا أرفض لهم طلبا .
قلّ هطول المطر وبانت لي بعض الشجرات العالية في البساتين الحجازيّة ، فتمنّيت لو أنّي أكملت مسيري الى هناك ، عسى أن أجد أحدا يتفقّد بستانه فألتجأ اليه . ازداد ارتفاع منسوب المياه في مجرى السيل ليفقدني الأمل في أن أعود أدراجي الى المنزل حيث الدفيء المنبعث من الموقد الذي تشعل جدّتي فيه الحطب ثمّ تتركه في الخارج حتّى يصبح جمرا وتضعه في وسط غرفتها المبنيّة من الطين ، فنجلس حوله ونأكل الزبيب ، الذي تخرجه لنا من السلّة المعلّقة في وسط غرفتها . انتبهت من شرودي على صوت أبي وعمّي واخوتي ينادون علّي من الضفّة الأخرى للسيل ، عندها تجرّأت وجلت بنظري داخل جحر الغولة ، فلم أرى شيئا سوى بقايا عظام لطائر أكله كلب على ما يبدو ..
انتشر الخبر في الحيّ وسألني الأطفال أصدقائي قبل أن نبدأ لعبة السبع حجار ، أن أخبرهم بما رأيت في جحر الغولة . رسمت على وجهي علامة الجدّية وقلت ، أنصحكم أن لا تذهبوا الى هناك ، فلا يستطيع مواجهة الغولة الاّ الأبطال أمثالي . نظروا الى بعضهم مستغربين اجابتي ، ورمى أوّل اللاعبين الكرة الصغيرة باتّجاه الأحجار السبعة ، وبدأنا اللعب وكأنّ قصّة الغولة لا تعنينا بشيء .