
عمر ضمره
في أقل من شهر، استطاع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن يربك العالم بتصريحاته النارية التي لم تترك دولة إلا وأثارت معها أزمة، من كولومبيا إلى كندا، مرورًا بالمكسيك والبرازيل، وصولًا إلى العالم العربي، وروسيا وأوروبا. وكأن العالم يشهد نسخة حديثة من سياسات الديكتاتوريات المتطرفة، حيث يتجسد ترامب بهيئة هتلر جديد، يقود الولايات المتحدة نحو مسار تصادمي مع الجميع.
لكن خلف هذا الجنون السياسي المتعمد، تكمن مصالح الدولة العميقة في الولايات المتحدة، والتي تخشى من انهيار هيمنة الدولار الأميركي بفعل صعود القوى الاقتصادية الجديدة، خصوصًا دول مجموعة البريكس. فقد أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى تهدد العرش الأميركي، فيما تمد روسيا نفوذها العسكري في إفريقيا، مما يثير الذعر داخل أروقة واشنطن. هذا القلق الأميركي ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لعقيدة الهيمنة التي تبنتها الولايات المتحدة منذ نشأتها.
لطالما كانت الهجرة الأوروبية إلى أميركا قائمة على استجلاب الفوضى، إذ استوطنتها جحافل من المغامرين والمجرمين الذين أسسوا دولتهم على أشلاء الشعوب الأصلية، حيث أبادوا أكثر من 50 مليونًا من الهنود الحمر. هذه النزعة الإجرامية لم تتوقف عند الداخل الأميركي، بل امتدت إلى العالم أجمع، لتفرض واشنطن نفسها شرطيًا دوليًا، متوهمة أن الكون خلق ليخضع لرغباتها.
وسط هذا المشهد العدواني، يبرز تساؤل مشروع: أين المثقفون والكتاب والفنانون والإعلاميون الأميركيون؟ ألا يرون أن السياسات الطائشة لبلادهم تدفعها نحو الانهيار؟ الولايات المتحدة، التي بنيت على العنف واستعباد الشعوب، باتت تقف على حافة هاوية تاريخية، إذ أن نهجها الاستبدادي لن يدوم طويلًا. إنها سياسة تحمل المسمار الأخير في نعش حضارة دموية قامت على القهر والاستغلال.
لكن العالم لم يعد كما كان، فقد بدأت الدول الواعية تدرك ضرورة كسر الهيمنة الأميركية، إذ أن مجموعة دول البريكس باتت قوة مزلزلة للكيان الأميركي، وهي تمضي بخطى ثابتة نحو تفكيك نظام “البترودولار” الذي فرضته واشنطن منذ عهد الرئيس نيكسون، عندما جعلت من الدولار الوسيلة الوحيدة لتسعير النفط. هذا الاتفاق منح أميركا قدرة غير محدودة على طباعة عملتها دون رادع، لكن محاولات كسر هذه الهيمنة بدأت منذ سنوات.
حينما قرر العراق استبدال الدولار باليورو في تعاملاته النفطية، واجه غزوًا أميركيًا في عام 2003، رغم أن الفرصة كانت سانحة لاحتلاله منذ 1991 خلال حرب الخليج الثانية. وكذلك كان مصير العقيد القذافي، الذي حاول استحداث عملة أفريقية موحدة قائمة على الذهب، فكان مصيره التصفية الجسدية والفوضى التي اجتاحت ليبيا. هذه الجرائم لم تكن إلا تأكيدًا على أن أميركا لا تتردد في استخدام العنف لضمان استمرار سيطرتها الاقتصادية.
أما اليوم، فتعيش واشنطن حالة من الذعر، مع تصاعد نفوذ البريكس وتراجع الثقة العالمية في الدولار، الذي أصبح رمزًا للتعجرف الأميركي. هذا الواقع يفرض ضرورة إعادة تشكيل التحالفات الدولية، بحيث لا تظل الولايات المتحدة اللاعب الوحيد في الساحة. ينبغي على القوى الصاعدة تأسيس تكتلات اقتصادية جديدة تعتمد على عملات متنوعة، لكسر احتكار الدولار وفرض قواعد تجارية عادلة.
ما تمارسه الولايات المتحدة من سياسات اقتصادية وعسكرية يعكس صورتها الحقيقية ككيان مفترس لا يختلف عن أكلة لحوم البشر. فهي لا تكتفي بفرض عقوبات اقتصادية، بل تزرع الفوضى وتغذي النزاعات لاستنزاف ثروات الشعوب. القاعدة العسكرية الإسرائيلية هي أداة أميركية تستخدمها لترهيب العرب، لكن المقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية والإيرانية أثبتت أنها قادرة على كسر هذه المعادلة.
على الدول العربية أن تدرك أن تشكيل جبهة موحدة لم يعد خيارًا، بل ضرورة لحماية مصالحها من التغول الأميركي. على العرب أن يتجاوزوا خلافاتهم ويتحدوا في مواجهة الابتزاز الأميركي المستمر. أما بخصوص القضية الفلسطينية، فالحل الحقيقي يكمن في عودة كل مهاجر يهودي إلى بلاده الأصلية، وإعادة الحق إلى أصحابه الشرعيين.
لطالما قامت العلاقات الدولية على المصالح المتبادلة، لكن ما تمارسه أميركا ليس سوى نظام قائم على الترهيب والضغط والابتزاز. غير أن هذه السياسات لن تدوم، فقد أصبحت الدول أكثر وعيًا بأن أميركا لا تملك أصدقاء، بل تسعى فقط للحفاظ على سطوتها الاقتصادية والسياسية. وإذا لم تدرك واشنطن أن عالم اليوم لم يعد يقبل هيمنتها، فإن مصيرها سيكون السقوط المدوي، كما سقطت إمبراطوريات الغطرسة قبلها.