المناهج لا تصنع إرهاباً ..
احمد حسن الزعبي
دخل الطبيب المتدرّب على مشرفه الاستشاري يسأله عن أدائه في نهاية اليوم..قال الاستشاري للمتدرب: لقد لبست قفازاتك بشكل ممتاز ووضعت الكمامة في مكانها فوق أرنبة أنفك تماماً،أخذت كل ما تحتاج من مقصات وخيطان طبية وأبر وشاش كل هذا جميل..لكن لو أنك لم تقع في خطأين بسيطين..الأول: لقد أجريت عملية البروستاتا للسيدة «أم جواد» في الغرفة على اليمين والثانية أنك قمت بإزالة الرحم لجارنا «أبو يحيى» على الغرفة الشمال..آآخ لو عكست تشخيص الغرف لكنت طبيباً رائعاً…أسهل من يمكن وصف تعديل المناهج الأخير أنهم عكسوا تشخيص «الغرف» وعكسوا تشخيص الوجع التربوي..
أتابع كل ما يكتب ويقال و»يشطح» فيه حول تعديل المناهج منذ ان استلم أبناؤنا الكتب ووصلني ما وصلني من ملاحظات من تربويين وأهالي بعضها حقيقي وبعضها مبالغ فيه الى حد الظلم .بداية أشعر بأسى كبير أن يقوم نائب رئيس الوزراء السيد العناني بتصريح ارتجالي فيقول: « عدّلنا المناهج لأنها تحضّ على الإرهاب» وهو لم يكلّف نفسه على الأقل أن يُنسّق مع زميله وزير التربية والتعليم –الشخص المعني- والذي ساق مبرراً آخر للتعديل أكثر مهنية من الناحية العملية ..يحزنني أن يقوم من هو بمنصب نائب رئيس الوزراء أن يفتي ويصف المناهج بأنها تدعو إلى الإرهاب – بالمناسبة هو أحد خريجي هذه المناهج- بينما لم يتصفح ولم يطّلع على صفحة واحدة منها..لكنه استسهل «معط» التصريح الارتجالي إرضاء للهوى السائر معتقداً ان هذا سبب التعديل الرئيس …ويحزنني أكثر وأكثر ، أن الصراع على المناهج في هذه اللحظات يتم بين طرفين لا يمثلان الأغلبية العظمى من المجتمع ، الطرف الأول العلماني المتطرّف الذي يريد ان ينسف الهوية الإسلامية ويكسر الرموز كلها ويرسم الخط الذي يريده ويراه ويتمناه…والطرف الثاني الأصولية الدينية المتطرفة التي لا تريد ان تقبل الآخر وتدعو إلى مزيد من الانغلاق والتلقين..بينما نحن أبناء التيار المعتدل الذي يمثل أكثر من 95% من الشعب الأردني لا يمثله ولا يدافع عنه احد في الوقت الذي يسعى كل طرف مما سبق أن يجيرنا لصالحه..
من حقي كمواطن أردني عربي مسلم «لا أخواني ولا سلفي ولا علماني» بل مسلم معتدل أن أسأل نفسي وأسألكم لماذا يريدون أن يصوروننا كشعب متخلف متوحش ومتطرف بينما نحن أكثر شعب مسالمة وتعايشاً وتقبلاً للآخر..هل نحن شعب إرهابي حقاً؟؟ كم تمثل نسبة التطرف الديني مقابل الانحلال الخلقي ؟؟ كم تمثل نسبة التطرف الديني أمام نسبة الجرائم الجنائية في البلد؟؟…هل مناهجنا هي سبب التطرف كما يدّعون؟ إذا كانت كذلك فكل قادة البلد ووزرائه ونوابه وأطبائه ومهندسيه وصحفيه هم «دواعش» أليس من يدّعي التغيير هو واحد من مخرجات هذه المناهج..لماذا لم يخرج منهم متطرّف أو إرهابي؟…
أنا مع تعديل المناهج ، لتواكب العصر ، لتحاكي التقدم العلمي الذي وصلت إليه البشرية ، أنا مع إدخال الدروس التي تتحدث عن استخدام الجهاز اللوحي «التابليت» وكيف يستخدمه الطالب وكم من الساعات التي يجب ان يقضيها ، أنا مع إدخال القصة القصيرة المعاصرة والشعر الجميل والرواية وتعليم الموسيقى والفنون وأنواع المقامات في كتب العربي ..لكني في نفس الوقت أنا مع الإبقاء على جميع النصوص القرآنية الجميلة التي في منتهى البلاغة والروعة ليستفاد منها في استخراج الصور البيانية ويطبق عليه دروس النحو..فالقرآن والأحاديث نصوص أدبية أيضاَ…
أنا مع تعديل المناهج، بحيث يوضع نصوص أدبية مترجمة في كتب اللغة العربية لأشهر الكتاب العالميين، ولوحات لأهم مشاهير الفن..لكني مع إبقاء الأحاديث النبوية أيضا كمصدر قيمي وفكري وتربوي وتنويري نبيل وأصيل..أين الإرهاب في الحديث النبوي الشريف « لا يحب أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؟؟؟ أإيثار بعد هذا الإيثار..؟؟.
بالمقابل هناك تهويل وتضليل مقصود وآخر عن حسنة نية يتحدّث عن نسف المناهج يصل الى حد الظلم، بينما في الواقع وبعد الاطلاع عن كثب على التغييرات فأن نسبة الخطأ والتشويه والتعدّي الذي وقعت فيه وزارة التربية والتعليم لا يتعدى 15% مما يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي…ولا بد ان تعترف وزارة التربية والتعليم ان هناك فجوة إدارية ومهنية كبيرة بين حسن النية وبين التدبير المقصود وعليها ان تتحمل المسؤولية بشجاعة…
ومع ذلك نحن نرى أن من فكّر وأمر ونفّذ تعديل المناهج على هذه الصورة كان بمنتهى السطحية ..عندما يقوم بإزالة جميع صور المحجبات من كتاب الثالث الأساسي بينما نحن نعيش في مجتمع فيه المحجب وغير المحجب بهذا الإجراء خير دليل على الـ»تطرف تربوي» بإقصاء الاخر والغاء الآخر ، لو كنت مسؤولاً عن المناهج لأبقيت الصورتين( المحجبة وغير المحجبة) في جميع صور الكتاب فالمنهاج عينة من مجتمع والمجتمع متنوع…
نحن نرى أن من فكر وأمر ونفّذ تعديل المناهج لم يكن التوفيق حليفه حيث حذف الذي يجب الا يحذف وأضاف الذي يجب ألا يضاف فأحدث ردّة فعل تفوق عشرات المرات تأثير القديم ، درس ذهاب فاطمة إلى مكة لا يصنع إرهابا؟ كما ان ذهاب لميس إلى بيروت لا يصنع استقرارا؟ لو كنت مسؤولاً عن المناهج لأبقيت الدرسين (مكة وبيروت) فالمنهاج عينة من مجتمع والمجتمع متنوّع..
من فكّر وأمر ونفّذ تعديل المناهج لم يكن التوفيق حليفه حيث حذف درس فراس العجلوني..فمحو اسم البطل الأردني الذي ضحّى بروحه فداء لفلسطين لا يصنع سلاماً ولا ينهي صراعاً!!…صراعنا مع إسرائيل صراع وجود..ووجود درس فراس العجلوني …»أسطورة في الوحدة الوطنية» وكيف ينتصر الأردني لقضاياه العربية – بالمناسبة التربية تؤكد أن هناك كتاباً منفصلاً تحت عنوان «بطولات من الجيش العربي يحتوي درس فراس العجلوني وغيره من الشهداء»ووزّع على مختلف المدارس ،في الواقع لم أتلق رداً بالإيجاب من العينات التي سألتها عن الكتاب من مدارس مختلفة في المملكة ، فهي لم تصل للمدارس وهذا خلل إداري واضح ، بالمناسبة ليس كتاب «بطولات الجيش العربي المفقود الوحيد من المدارس» هناك «كتيّب الأدعية « وكتيب «المادة المتخصصة في مهارة القراءة»…
لو كنت مسؤولاً عن المناهج لأبقيت درس فراس العجلوني في التربية الوطنية وأضفت له درسا عن موفق السلطي و معاذ الكساسبة وراشد الزيود هؤلاء رموز حقيقية …لمَ تحاولوا طمس كل الرموز أمام الجيل الجديد وتقديم «فيفو» و»زيزو» كقدوة حداثية في هذا الزمن المختلف..الطفل يجب ان يتعلق برمز في أول وعيه حتى يصبح في قادم الأيام رمزاً وقائداً لا مطية وتابعاً…ثم ان الدفاع عن فلسطين ليس صفحة تنزع من وحدة أو درس…فلسطين هي التاريخ بحد ذاته وهي الدرس…
لو كنت مسؤولاً عن المناهج لحركت في هذا الجيل حب الإنسانية، لتطرّّقت لدرس أو درسين عن اللاجئين،عن مساعدة الآخر، عن الاعتدال ، عن معنى السلام، عن رموز السلام في العالم ..لأدخلته في عالمه الذي يعيشه كل يوم أمام شاشة التلفاز وفي الحي والأسرة وتفكيره… لو كنت مسؤولاً في المناهج لاستعنت بمختص علم نفس وأستاذ علم اجتماع واستشرتهما ما الذي يصلح وما الذي لا يصلح تدريسه في كل مرحلة عمرية..
غير موفق على الإطلاق من فكر وأمر ونفّذ تعديل المناهج..لأن حذف آية او آيتين ، او شطب حديث أو حديثين ، وعزل جلّ الرموز العربية والوطنية لا يعني انك تخلق جيلاً متصالحاً مع نفسه ، بهذا الإجراء أنت تخلق جيلاً تائها لا يستطيع أن يرى ملامح هويته في مرآة المستقبل…
معلومة صادمة أخيرة ، 99% من الذين هاجموا المناهج لم يطلعوا عليها كاملة بل لم يطلعوا على صفحة منها ، بعض السور والآيات تم نقلها من صفحة الى صفحة وبعضها من صف الى صف وبعضها حذف تماماً..بالمقابل 99% من الذين هلّلوا لتعديل المناهج لم يطلعوا على صفحة واحدة منها ولو اطلعوا فعلاً لاستبدلوا حماسهم بهجوم معاكس أكثر حدة من خصومهم..
كلمة أخيرة..إلى كل الذين حاولوا أن يوصلوا رسائلهم خفية متسللين الى المناهج طارحين أجنداتهم التي ما فتئنا نعرّيها للواعين من أبناء الوطن..تعقّلوا وانظروا إلى الأسباب لا إلى النتائج ..المناهج لا تصنع إرهابا…غياب العدالة الاجتماعية…هي التي تصنع الإرهاب، فساد النخب السياسية هي التي تصنع الإرهاب، عدم تكافؤ الفرص، كبت الحريات، التمايز الطبقي سحق الطبقة الفقيرة ،هي التي تصنع الإرهاب.. التبعية الاقتصادية والسياسية ومس استقلالية الوطن بقرارته هي التي تصنع الإرهاب، ضعف الحس الوطني وقلة النضوج السياسي هي التي تصنع الإرهاب ، استحالة الحصول على الحق دون واسطة او استقواء هي التي تصنع الإرهاب…
تلك وصفة لمن أراد الشفاء والبناء..غيرها ..تأكدوا اننا نضيع الوقت ونضيع جيلاً كاملاً…المناهج لا تصنع إرهابا…غياب العدالة وغياب تطبيق القانون وعدم المساواة أولاً… فتفكّروا…
الراي