د. سامي الرشيد
التفاؤل والقيم بين المجتمع والدولة
القيم هي قيم الأدب والصدق والأمانة والزهد والوقار والجدية والإخلاص والطهر والشفافية والعدل والاستقامة والمحبة.
القبح القابع في انحراف السلوك وتضخيم الذات وتغليبها على ما عدا سواها وتجبر الأقوياء وعصفهم بالضعفاء، في الغطرسة والصلف والجبروت والتيه بقوة القدرة على الفرض أو البطش أو الايذاء .
يستسهل الكذب والنفاق والرياء والمداراة والانحصار في الأنانية والانحياز لمآربها وشهواتها في انعدام أو تقلص القدرة على الاحساس بالآخر والالتفات لحقوقه، في الجري وراء أطماع الذات والانتصار لها وتغليب مآربها مهما أضلت وأنذرت.
لدى المجتمع العربي رصيد عريض تكوّن عبر التاريخ من القيم والآداب والتقاليد، ويكفل له هذا الرصيد التمييز والفرز والتجنيب لكل ما هو سيء.
إلا أن هذه القدرة تقاطعها وتعترض سبيلها التراجعات الفردية التي قد تفرضها خشية التصادم مع من جنحت سلوكياتهم.
حين تصاب بوصلة الأفراد وتصاب بوصلة المجتمع فتختل فيه المعايير ويفقد المجتمع القدرة الذاتية على الاندفاع في الاتجاه الصحيح طلباً للجمال والكمال.
مهما كانت هذه التراجعات الفردية ضئيلة العدد الا انها تشيع جواً عاماً من الخشية والتحسب.
إن القدوة الحسنة تعمل أثرها الرشيد في المجموع العام فان الأمثولة السيئة تحدث أثراً ربما أعرض مما تحدثه القدوة الطيبة، وتزداد هذه المشكلة أثراً وتعقيداً حينما يشيع التراجع عن الحق والعدل والصواب وحين لا يترجم المجتمع موقفه المميز الذي يؤدي الى موقف متفائل إيجابي عام ومعبر عن إرادة الجميع.
الدولة مرآة للمجتمع تعبرعنه تعبيراً مدعوماً بما أعطاه المجتمع لها من سلطة ومن صلاحيات وآليات؛تفرض القوانين والأنظمة وتحافظ على ضوابط التعامل بين الناس بكل عدالة ومساواة وشفافية.
إذا كان نهوض المجتمع بتفعيل بوصلته يحتاج أولاً :إلى إنعاش مجمل ثقافته وقيمه ويحتاج ثانياً : إلى تأمين الدولة لأفراده، فإن دور الدولة يحتّم الآن عليها أن تنهض به لإعادة الانضباط وحماية الناس وتصحيح ما انفرط في عالمنا العربي.
التفاؤل هو شعور بيولوجي يسكن في العقل ويولد به البشر بالإضافة إلى مقدرته على التطور مع عمر الإنسان مقاوماً لأي هزات قد يتعرض لها عبر سنوات عمره.
علم التفاؤل هو علم اكتشفه العلماء حديثاً؛ هو ليس شعوراً إيجابياً يدفع فقط المحظوظين به إلى المزيدمن السعادة والأمل، بل هو علم يفتح الباب إلى ثورة سايكولوجية جديدة تؤكد أن العقل البشري لا يختزن الماضي فقط بل هو قادر على التطوّر والتطلّع نحو المستقبل وهو ما يسمح للتفاؤل بالتطور والتجدد ليصبح معظم الناس يتمتعون بهذا الشعور.
هذا الشعور الإيجابي الفطري المولد، لا يتأثر مع ما يدور حولنا من مشاكل ناتجة عن الصراعات والحروب والبطالة والكوارث الطبيعية، وكل ما يصيب الإنسان من عوامل الفشل والإحباط المهددة لحياته، بل إن الشعور الحقيقي بالتشاؤم دائماً ما يتخذ مساراً بعيداً عن المستقبل أو الحالة الشخصية للفرد،ويركز على العوامل والاتجاهات والأدوار البعيدة عن ذاته مثل الخوف والتشاؤم من عدم قدرة الدولة على إصلاح التعليم ومناهجه أو تحسين الصحة أو توفير فرص العمل وغير ذلك من القضايا الخارجة عن سيطرة العقل الفردي.
اختار الناقد الأدبي الإنجليزي تيري إيغلتون لكتابه الجديد عنواناً( أمل بلا تفاؤل) مشيراً ضمناً إلى واقع راهن يحتاج إلى الأمل، ومبتعداً عن التفاؤل الذي يستولد الفرج من لا مكان. وللأمل المنشود مرجع أبدي الحضور يعرفه المؤمنون قبل غيرهم، آيته الإيمان الديني. فقد زود الله الإنسان بفضيلة الصبر على الشدائد الذي يضع بين يدي الإنسان ما يريد.
حاول إيغلتون أن يصالح بين جوهر إنساني قديم لا يقنط من الرحمة وعقل حديث يرى الظواهر في أسبابها.
ويقول لا تفاؤل إلا بالممكن مع التفاؤل العقلاني ويربط بين التفاؤل والعقل.
إننا كبشر نجنح أن نكون متفائلين أكثر من واقعيين وأن الشعور بالتفاؤل يبدأ من خلال هذه الموهبة العقلية الفذة القادرة على السفرعبر الزمان والمكان داخل العقل، الأمر الذي يسمح أن نعيش المستقبل ونحلم أن الأشياء سوف تكون أفضل وهذا ما يتمتع به الأشخاص الإيجابيون.
التفاؤل أيضا له أبعاده السلبية التي تمنعنا أحيانا من الوقوف على أرض الواقع والانتباه إلى ما يحجبه الزمن، وبالتالي يبعد صوابنا عن الحفاظ على صحتنا أو الحرص على مدخراتنا واستثماراتنا وما إلى ذلك من سلوكيات تنبعث نتيجة الإفراط في التفاؤل.
التفاؤل أيضاً عبارة عن ميل أو نزوع نحو النظر إلى الجانب الأفضل للأحداث والأحوال وتوقع أفضل النتائج.
قيل في التفاؤل:
الأمل ربما يتلاشى لكن لا ينعدم
بيت أضحك فيه خير من قصر أبكي به
كن كالنخلة تلقى بالحجارة ولكنها تعطي أطيب الثمار
ليس الفخر ألا تسقط ولكن الفخر أن تنهض كلما سقطت
تفاءلوا بالخير تجدوه
قال الشاعر إيليا ابو ماضي:
أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا
إن شر الجناة في الأرض نفس تتوفى قبل الرحيل رحيلا
أيها الشاكي وما بك داء كن جميلا ترى الوجود جميلا
إننا حتى نتقدم علينا أن نبحث عن بدائل لهذا الواقع الذي نعيش فيه ويتم ذلك من خلال ثقتنا في قدرتنا على تغيير هذا الواقع والأخذ به الى آفاق ربما قد تفوق خيالاتنا.
هذا الايمان وهذه الثقة هما ما سوف يساعدان على تحفيز أهدافنا حتى لو كان هذا المستقبل به من الخيال والوهم، ولكنه سوف يكون قادراً على تحقيق مزايا أخرى تسمح للعقل بالراحة والحد من التوتر وتحسين الصحة البدنية للإنسان؛ وهذا ما يطلق عليه خيط الأمل. يقال ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
يظل الدفاع عن الأمل هو الباب الرئيسي الذي ندخل منه للمستقبل.
الانضمام لمن يندبون ليل نهار لن يؤدي بنا إلا إلى إشاعة روح تدميرية تقود المجتمع للخراب.
أن تقدم فكرة جديدة كل يوم خير من اللهاث وراء من يشيعون الاحباط في المجتمع .
الدفاع عن الأمل يعني إعطاء الفرصة للجميع، يعني لا تمييز ولا إبعاد، بل مساواة وعدل وقدرة على التواصل مع الجميع وإعطاء كل ذي حق حقه.
هذا الخيط الذي يربطنا بالأمل ويجنبنا التغلب على الكثير من الأمراض والصعاب حتى تمر وتصيب حياتنا. وهو ما يفسر تغلب كثير من المرضى على امراض فتاكة عن غيرهم ممن انقطع عنهم هذا الخيط.
قال ونستون تشيرتشل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق: إن المتشائم يرى الصعوبة في كل فرصة، أما المتفائل فيرى فرصة في كل صعوبة.
دعونا نستثمر هذا العلم الحديث الذي يلفت انتباهنا إلى هذه الميزة الفطرية التي تولد معنا، مرنة الحركة، القادرة على تحسين جهازنا المناعي والعصبي، القادرة على منحنا الشدة والصلابة في مواجهة الأزمات والمحن.
دعونا نفسح المجال للحلم بأن الغد أفضل وأن الصعاب سوف تقهر بهذا التفاؤل وأن الاشخاص المتفائلين هم عادة الناجحون السعداء هم الذين يؤمنون بأن الأحداث السلبية مؤقتة محدودة المجال وسهلة القهر وهناك خيط وثيق بين التفاؤل والامتنان وهذا الخيط لا ينقطع أبداً ويبقى الأمل أمامنا لتحقيق غاياتنا والوصول لما نرغب ونحب.
.