الاستاذ الدكتور نضال الشريفين
(الأردن يُظلَم… فينتصر بالكرامة)
انجاز-بقلم أ. د. نضال الشريفين.
لم تكن مباراةً تُقاس بنتيجةٍ تُعلَّق على لوحة، بل كانت امتحانًا للمعنى، وميزانًا للعدل، وساحةً تُعرّي الصافرة قبل أن تحاكم الأقدام، فما قدّمه النشامى كان وقفة وطن كُتبت بالعرق والانضباط والرجولة الصافية؛ لعبوا ليصنعوا الفوز لا ليطلبوه، وضغطوا ليقنعوا لا ليُجاملوا، وثبتوا حتى اللحظة الأخيرة وكأنهم يعرفون أن اسم الأردن أثقل من أي قرارٍ عابر، ومن خلفهم، كان الجمهور الأردني مشهدًا مكتملًا للوعي: حضورٌ أنيق بلا فوضى، تشجيعٌ صادق بلا إساءة، وانتماءٌ يحرس القيم ولا يبدّدها. هنا اكتملت الصورة: فريقٌ يقاتل بشرف، وجمهورٌ يحمي المعنى.
وفي قلب هذا المشهد، ظهرت القيادة حيث يجب أن تكون: بين الناس، فلم تختَر منصّاتٍ ولا بروتوكولات، بل المدرّج والنبض، فحضر ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ورافقه الأمير علي بن الحسين، وكان بينهم أيضًا الأمير هاشم بن الحسين، هتفوا حيث يهتف الجمهور، وشاركوا القلق كما يُشارك الفرح، قيادةٌ اختارت القرب لا الاستعراض، فأربكت الزيف وأسقطت الادّعاء بلا ضجيج، وأعادت تعريف الهيبة بأنها حضورٌ صادق لا صورةً عابرة.
ثم نصل إلى العقدة التي لا يجوز تمييعها: الظلم. ليس التباسًا عابرًا ولا اجتهادًا بريئًا، بل مسارًا تكرّر حتى صار فاضحًا. لقبان حُرِم منهما الأردن- في لقب آسيا ثم في كأس العرب- بقراراتٍ مفصلية غيّرت مسار مباريات، وثّقتها الإعادات، وأقرّ بها التحليل المحايد قبل العاطفة، هنا لا يطلب الأردن امتيازًا، ولا يرفع راية مظلومية، بل يضع قاعدة واحدة على الطاولة: التحكيم العادل شرط اللعبة. رسالةٌ صريحة إلى الاتحادات عربيّةً ودوليّةً: كرة القدم لا تُدار بالأسماء ولا تُوزَّع بالضجيج؛ ومن دون مساواةٍ حقيقية تُستنزف الثقة وتُهان المنافسة.
وعندما يرتفع صوت الحق، يظهر من يحاول خنقه بالضغينة، فلماذا هذا الحقد الدفين على الأردن؟ الأردن الذي كلما اشتعلت نارٌ في بلدٍ عربي كان بيتًا لا متراسًا، وملاذًا لا شرطًا. استقبل الفلسطيني قبل أن يُسمّى لاجئًا، والعراقي حين ضاقت به الأرض، واليمني حين انقطعت السبل، والسوري حين حاصرته الحرب، والليبي حين تكسّر وطنه؛ وقبلهم الشيشان والشركس وكل المظلومين في الأرض دخلوا ضيوفًا مكرّمين لا أرقامًا، عاشوا بأمان، تعلّم أبناؤهم،وتداووا، وعملوا، ومع ذلك، يخرج من بعض النفوس لا من الجميع؛ حقدٌ دفين لئيم؛ بسبب فوزنا المتكرر عليهم في كل الميادين؛ لأن الطهر يفضح، ولأن الشرف يستفزّ من اعتاد المساواة، الأردن ليس كيانًا طارئًا ولا تاريخًا مُستعارًا؛ الأردن شرف الشرفة، وأصل العروبة، وجذرٌ ممتدّ بقيادته الهاشمية المتصلة برسول الله ﷺ، وبعشائره وقبائله التي صانت العهد والأرض، فمن ضاق صدره أمام نموذجٍ نظيف، هاجم؛ ومن عرف قيمة الأخلاق، احترم.
والخلاصة ليست ختامًا بقدر ما هي بداية، فالطريق ازداد وضوحًا، لا تعقيدًا، والنشامى اليوم أصلب خبرةً، أهدأ ثقةً، وأقرب حلمًا، وحظوظهم في كأس العالم في أمريكا قائمة بإذن الله؛ لأنهم يبنون بالعمل لا بالضجيج، وبالهوية لا بالادّعاء. إلى اللاعبين: ارفعوا الرؤوس، فالميدان يعرفكم. إلى الجمهور: اثبتوا على هذا الوعي، فهو سلاحكم. وإلى كل من يراهن على كسر الأردن: قد تُؤجَّل بطولة، وقد تُسرق لحظة، لكن ما لا يُسرق هو الحقيقة – الأردن حين يُظلَم لا ينكسر… بل ينتصر بالكرامة.
