جريس سماوي
تتفتّحُ القريةُ كأزرار الوردِ على هدأةِ الزمنِ مثلَ فتاةٍ تخرجُ بتؤدةٍ في الصباحِ الى حديقةِ الغيمِ لتسقي أُصصَ الريحان.
منذُ أن عرفتُها ذاتَ طفولةٍ مليئةٍ بالأجراسِ وصوتِ الربابةِ وهي تكبُرُ معي وتقاسمُني زياراتِ الكرومِ وقطفِ خصلاتِ العنبِ المخصّفِ كالبلّور.
نركضُ في الحقولِ وأصرُخُ أينَ انتِ؟ فيجيبُ الصدى أينَ أنتَ؟ وأضحكُ وتضحكُ، وأشبكُ يدي في يدِها كي لا تضيعَ منّي.
في الطريقِ الضيّقِ المتعرّجِ المحفوفِ بالبيوتاتِ الطامنةِ ونباتاتِ الزينةِ المعربشةِ على الجدرانِ، اشتمُّ رائحةَ الخبزِ من “طابونٍ” قريبٍ يُصعدُ دخانَهُ المتسامي على مهلٍ كدعاءِ الجدّاتِ.
أتنفّسُ على مقرُبَةٍ من الطريقٍ رائحةَ البهارِ من نافذةِ امرأةٍ تستمعُ من المذياعِ إلى أغنيةِ حبٍ عتيقةٍ.
أنا أعرفُ القريةَ، وأقرأُ أبجديّاتها بالحواسِ الخمسِ أو العشرِ أو الألفِ. يكفي أن أشمّ الريحانَ فأعلمُ هويّةَ المكان. يكفي أن أسمعَ صهيلَ حصانٍ من بعيدٍ لأرى المشهدَ كاملاً بالأبعاد كلِّها. يكفي أن تمسّ فمي حرقةُ زعترٍ برّيٍّ لأدركَ أنني على مقربةٍ من الوادي الأزرقِ المعبأ بالسمكِ الصغيرِ. وحينَ ألمسُ الحجارةَ الصفراءَ العتيقةَ عتقَ كنائسِها أو أنظرُ في نقشٍ على بابِ البيتِ أو جدارهِ، أبتسمُ كعاشقٍ متسترٍ شاهدَ للتوّ حبيبَتهُ وكتمَ الوله لكي لا تتلوث قدماها الطيبتانِ بدخانِ الفضيحةِ.
الربابةُ تُصعدُ لحنَها البرّي إلى الأعالي، وصوتُ الشاعرِ المليءِ بالوجدِ والحنين يملأُ الوادي، وفي ليالي الفضّةِ القمريةِ، يحيطُ حداءُ الفلاحين بامرأةٍ ترقصُ بالسيفِ حافيةً إلا من خلخالها الذي يضيءُ الأرضَ وهي تدوّنُ بإيقاعاتِ قدميها وخلخالِها تاريخَ المكان.
أنني أعرفُ القريةَ من عطرِها ورنّةِ خلخالها وهي تتفتحُ على هدأةِ الزمنِ وتخرجُ مزّهوّةً بأنوثتِها إلى حدائقِ الغيم.