مصطفى الشبول
عندما تفوق إنسانية الفرد كل الصفات وترى أن هذه الخصال النبيلة والإنسانية العظيمة نابعة من أصل داخلي نقول بأن الدنيا مازالت بألف خير وان الخير ما زال موجود في بعض الرجال وأصلابهم … أبو الفقراء أطلق هذا اللقب على دكتور جراح قلب من السويداء ، حيث أجرى هذا الرجل آلاف العمليات ولم يتقاضى فلساً واحداً وكان يرفض العمل في المستشفيات الخاصة، وهو يعمل في وزارة التعليم العالي وكان يعتاش على راتبه فقط ، حتى في عيادته الخاصة كان نادراً ما يتقاضى أجور المعاينة…وبما أن الفروع نباتها ونتاجها خير، فأن الأصول أساسها خير وكما أطلق على الدكتور أبو الفقراء ، كان يطلق على والده لقب أبو القمح حيث كان (أبو القمح) من أهم الشخصيات البارزة في المنطقة ، وكان في سنوات القحط يخرج من مضافته صباحا فيجد رجالا في ساحة الدار جاؤوا إما ليشتروا القمح أو للاستدانة ، فيقول لهم :من يحمل المال يقف هنا ، ومن جاء للاستدانة يقف هناك ، فيقول لمن يملكون المال : انتم أينما ذهبتم ستجدون القمح ،ويصرفهم ، ثم يبدأ بإعطاء من جاء للاستدانة حاجته ويكتب عليه سند أمانة بالكمية ويقول له : بس الله يفرجها عليك بترجع القمحات …ويقال بأنه حين أدركته المنية كان في فصل الشتاء، حيث طلب من احد الحضور أن يفتح الصندوق المليء بالسندات ويضعها داخل صوبة الحطب ويحرقها ، وقال : أخشى أن يقوم أولادي يوماً ما بمطالبة الناس بالدين …أما الشيء الجميل واللطيف بالأمر أن الرجل الذي كان يخرج السندات من الصندوق وجد ورقة ملفوفة بشريط أحمر وعندما فتحها وإذ بها قرار الباب العالي بمنحه لقب باشا ،بقيت في الصندوق سراً لا يعرفها حتى أولاده .
نقول أين نحن من مثل هؤلاء الرجال ؟ وهل انقرض أصحاب تلك الصفات وتلك الخصال الإنسانية؟ ولنا في واقعنا ومجرى أيامنا أكبر دليل، انظروا إلى أكثر الخصومات والشكاوى في المحاكم سببها تقديم الشيكات والكمبيالات على بعضهم البعض فلا المستدين ينوي السداد ولا الدائن يصبر ويمهل ، حتى الأعمال الخيرية التي تقيمها بعض الجمعيات والمنظمات والقائمين عليها من خلال تقديم المساعدات للفقراء والمحتاجين لا تكون مقبولة ولا تحمل الطريقة الجميلة التي تشعر الفقير بأن هذه المساعدات أحد حقوقه ، فقط يركزون على الإعلام والتصوير بالإضافة إلى المنّ والكلام الزائد وكأن لسان حال بعض العاملين والقائمين على الجمعيات يقول لولا نحن لما وصلت لك المساعدات متجاهلين كرامة الفقير وشعوره ..عدا عن الكلام في السهرات والدواوين وبين الناس على قول ( والله بعثنا لفلان صوبة ، وبعثنا لابو فلان حرام ، ودعمنا فلانة بطرد مساعدات ، ……) ، فقبل أن تُمَنّن على فلان وعلى علان بالمساعدة أنظر كيف تغيرت أحوالك بعد العمل مع الجمعيات والمنظمات …
فلقب أبو القمح ولقب أبو الفقراء لم يأتي من عبث ولم يخرج من فراغ وإنما خرج من بيوت عزة النفس والكرامة والإنسانية العظيمة …فبيوت الكرامة لا تنجب إلا كريمي النفس واليد.