عدنان نصار يكتب
شارع الرشيد .. ربيع 1974
في ذاكرة المكان ثمة أبواب لا تُغلق، وشرفات ما زالت تُطلّ على زمن لم يرحل. شارع الرشيد ليس مجرد حجر ورصيف ومحال قديمة، بل هو كتاب مفتوح على وجوه وأصوات وأحلام. أجيء وأروح، ألتفت خلفي، فيشدني الشوق إلى ذاكرة أخرى، إلى ملامح الذين سبقونا، أولئك الذين علمونا الدرس الأول في فروسية الكلمة وشرف الموقف.
في ربيع 1974، كنت أعود محمولاً على الحنين إليهم كلهم، إلى تلك الأرواح التي تركت في المكان رائحة لا تزول. وكان بينهم الراحل د. أنور فرحان البخيت .. أنيقاً في حضوره، طويلاً كالنخيل، مبتسماً بوقار، يحمل هدوءاً يشبه نبع ماء صافٍ في صيفٍ عطِش. لم يكن مجرد عابرٍ للشارع، بل كان شاهداً على زمن، ودليلاً على أن الرجل يمكن أن يكون مدرسة في السلوك قبل أن يكون طبيباً يحاكي العيون متخرجا من جامعة اسطنبول عام 1968.
أتكئ على ذاتي كلما مرّ بخاطري، فتأخذني الدهشة: كيف يظل الذين رحلوا أكثر حضوراً ممن بقوا؟ وكيف تبقى ملامحهم نوافذ نطل منها على ذواتنا من نافذة البيت العتيق، كانت تأتينا أغنية محمد عبد الوهاب، كأنها تبارك ذاكرتنا وتمنحها حياة أخرى:
“يا وردة الحب الصافي..يسلم إدين إلي سئاكي”
كانت الأغنية تجيء كرسالة من زمن آخر، تُغني الرشيد، وتفتح في القلب شرفة على ربيع لا يشيخ. ومع كل لحن، كانت صورة أنور تزداد وضوحاً: هدوؤه، ابتسامته، أناقته في بذلته العسكرية برتبة عقيد طبيب.. رحل الجسد، لكن بقي الأثر، وبقيت السيرة حيّة في شارع يرفض أن يشيخ، مهما تبدلت معالمه.
هكذا يظل الرشيد شاهداً على الذين عبروا فيه، وعلى أولئك الذين جعلوا من الكلمة موقفاً، ومن الموقف حياة..
#عمار يا_بلد
#الرشيد_ذاكرة_لا_تغيب