محمد حسن التل يكتب :
روافع العمل السياسي العام في الوطن العربي شكل الإسلاميون والقوميون الركنان الأساسيان لها ، فقد كان معظم المسيسون في البلاد العربية موزعون بين التيارات القومية والتيارات الإسلامية، وعندما يقال إسلامية لا يعني فقط إخوان مسلمون فقد ظهرت أحزاب إسلامية متعددة كما ظهرت مئات الشخصيات الإسلامية المستقلة شكلت أيضا عناوين بارزة في التيارات الإسلامية ، وشكل القوميون والإسلاميون كل لوحده قوة سياسية شعبية ضخمة ، واستطاع الطرفان في فترات زمنية مختلفة الوصول إلى الحكم كما حدث في العراق وسوريا تحت عنوان “البعث”، ومع الإخوان في مصر ، ولكن جميع الأنظمة التي قامت على قواعد فكرية قومية حزبية كانت أم إسلامية كان مصيرها الإنهيار ، كما حدث مع البعث في دمشق وبغداد بعد أن أصبح الحكم هناك حكما دكتاتوريا طالبت الشعوب بإسقاطه ، وفي القاهرة عندما سيطر الأخوان على ثورة المصريين ووصلوا إلى الحكم لم يمض على وجودهم فيه سوى عام واحد ثم أسقطهم الشعب المصري لأنهم لم يستطيعوا إدارة شؤون البلاد من منطلق الدولة وأداروها من منظور التنظيم ، فأقصوا الجميع وتحولت مصر كلها تحت سيطرة قيادة الإخوان وفي النهاية قال الشعب المصري كلمته واستعاد حكمه لنفسه .
وكما أشرت في البداية ، ظل المشهد السياسي والفكري في الوطن العربي محكوماً بثنائية التيارين القومي والإسلامي لعقود عديدة ، ثنائية إتخذت في معظم الأزمان طابعا صدامياً لا يخلو من الحدة في التعبير، والشك في النوايا، والتخوين في المرجعية، وكانت النتيجة في الغالب، تعميق الفجوة بين تيارين كان من الممكن لو اجتمعا أن يشكلا حلفاً نهضوياً كبيرا.
وقد نتج هذا الصراع عن تحولات عميقة شهدتها المنطقة ..فالتيار القومي خرج من رحم النضال ضد الاستعمار، حاملاً راية التحرر والوحدة العربية والعدالة الإجتماعية، وجد في العروبة هوية جامعة تتجاوز التقسيمات القُطرية والطائفية. وفي المقابل، برز التيار الإسلامي كامتداد لصحوة دينية رأت في الإسلام نظاماً شاملاً للحياة، يعيد للأمة توازنها، ويصون هويتها، ويقيم مشروعاً حضارياً قائماً على القيم الإسلامية..
ومع صعود المشروع القومي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ونجاحه النسبي في توحيد الشعارات والمواقف العربية في زمن اشتكى منه الإسلاميون من التهميش في ظل ما اعتبروه تغريباً للهوية وتجاهلاً للبُعد العقائدي في بناء المجتمع ، وردّ القوميون باتهام مضاد أن الإسلاميين يقفون ضد الدولة الحديثة، ويقدّمون حلولاً ماضوية تتجاهل سنن التطور الأمر الذي جعل الخلافات بين الطرفين تتراكم وتعمقت الهوة بينهما وتشكلت حالة عدم ثقة عائقا كبيرا أمام أي تقارب..
في الساحات الفكرية، من القاهرة إلى بغداد، ومن دمشق إلى الرباط، تعمقت هذه الفجوة، فبدلاً من أن يُبنى تحالف وطني عربي جامع، انشغل الفريقان بمعارك استنزفت الطاقات، وفتحت المجال لتغلغل مشاريع خارجية أضعفت الأمة ومزقت وحدتها، مع أن
كِلا التيارين القومي والإسلامي ينطلقان من جذور أصيلة في وعي الإنسان العربي، فالقومية ليست إلحاداً كما روج بعض العاملين في حقل العمل الإسلامي، كما أن الإسلام ليس انغلاقاً ، العرب هم الذين حملوا رسالة الإسلام إلى العالم، والإسلام هو الذي صاغ الحضارة العربية ، ولولا هذا التداخل العميق بين العروبة والإسلام، لما قامت حضارة الأندلس، ولا ازدهرت بغداد، ولا شعت القاهرة علماً وفقهاً وثقافة ،ولا كان للأمة شوكة .
اليوم، ونحن نشهد فيه تفتت الأرض العربية، وادارة الظهر للقضايا الجامعة، واستفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية واستهداف الأمة بمشارع متعددة كالمشروع الإسرائيلي والمشروع الإيراني كذلك التركي، تبدو الحاجة ملحّة لإعادة قراءة العلاقة بين التيارين، لا بمنطق التنافر، بل بمنطق الشراكة فما يجمع بينهما أكثر مما يفرّق كالإيمان بوحدة الأمة، ورفض التبعية، والتمسك بالهوية، والسعي للتحرر والعدالة..
إن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى خطاب عقلاني جامع يُخرج القومية من قيود الشعارات، ويُحرر الإسلام من جمود العناوين التي قيدت الإنفتاح الطبيعي فيه نتيجة عدم فهمه العميق من قبل الكثيرين من العاملين بالحركات الإسلامية سواء على الساحة الفكرية أو الساحة السياسسة ، ويرتقي هذا الخطاب المنشود بالوعي الجمعي نحو مشروع حضاري مشترك ، فالنهضة لا تتمّ بدون الإعتراف بتلاحم العروبة مع الإسلام وضرورة نهضة عربية لتكون قاعدة لوحدة إسلامية..
في الوطن العربي الآن، كل دولة تواجه تحدياتها، لكن الأزمات الكبرى كالاحتلال والاستبداد والتغريب والأزمات الإقتصادية وصولا تبقى مشتركة، ولا يمكن حلّها إلا بتقارب هذه الدول وفق رؤية سياسية مستندة إلى تلاقي فكري وثقافي واقتصادي قدر المستطاع وهو ما يتطلب شجاعة فكرية، ونظرة استراتيجية، وإقرار بأن اللحظة التاريخية والتحديات الماثلة لم تعد تحتمل خلافات لا تستند إلى أي أساس واقعي..
وأخيرا، لعل من واجب النخب والمثقفين العرب أن لا يكونوا وقوداً لنار الإستقطاب، بل يكونوا جسوراً للفهم والمصالحة، فالأمة التي أنجبت عبد الناصر وشوقي والرافعي ومحمد عبده والعقاد والكواكبي ، والعديد من رموز الفكر القومي والفكر الإسلامي ورفعت راية وحدة الأمة قادرة على النهوض حين يتصالح أبناؤها ويُدركون أن ما يجمعهم هو المصير والهوية والرسالة.
حين تلتقي العروبة بالإسلام على قاعدة السعي نحو توحيد العرب، وتعظيم المشترك بين التوجه القومي والإسلامي ساعتها سنشهد بداية نهضة حقيقية للأمة….