د. زهور غرايبة
تأنيث التعليم الأساسي في الأردن بين الجذور التاريخية ورهانات المستقبل
أعلنت وزارة التربية الأردنية قرارًا يقضي بتأنيث الكادر التعليمي للمدارس الحكومية حتى الصف السادس الأساسي،القرار الذي أثار نقاشًا واسعًا بين مختلف الأوساط التربوية والاجتماعية، يعيد إلى الواجهة أهمية تأمل طبيعة التعليمفي مراحله الأولى، وأثر البيئة الصفية في بناء شخصية الطالب، وهو في الوقت ذاته، استدعاءٌ لإرث تربوي قديملطالما كانت فيه المرأة الأردنية حاملة لمشعل التغيير الاجتماعي عبر التعليم.
تشير دراسات علم النفس التربوي إلى أن السنوات الأولى من حياة الطفل تمثل فترة حاسمة لتشكيل شخصيتهواكتساب المهارات الأساسية التي تحدد مساراته المستقبلية. وقد أثبتت الأبحاث أن حضور المرأة في الفصولالدراسية خلال هذه المرحلة يساهم في خلق بيئة تعليمية دافئة، آمنة، وداعمة للنمو العاطفي والاجتماعي.
كما بينت دراسات حديثة أن التفاعلات الصفية التي تتسم بالتفهم والصبر — وهي سمات تظهر غالبًا في أساليبالمعلمات — ترتبط بتحسين التحصيل الأكاديمي وتعزيز مهارات التفكير الإبداعي لدى الطلبة.
القرار الجديد يأتي في وقت حساس، حيث يعكس استمرار المملكة في تكريس دور المرأة في مختلف القطاعاتالحيوية، ولكن في الحقيقة، هذه الخطوة ليست جديدة تمامًا؛ هي امتداد لمسيرة طويلة بدأتها المعلمات الأردنياتفي أوائل القرن العشرين، اللواتي كنَّ من الرائدات في نشر التعليم في الأردن، ففي الثلاثينيات والأربعينيات من القرنالماضي، كانت المرأة الأردنية جزءًا محوريًا في البناء التربوي للمجتمع، ولم يكن دورها مقتصرًا على التدريس فقط،بل امتد ليشمل التوعية الاجتماعية.
كانت المعلمات في تلك الفترة، مثل أفلين نخلة حداد وحليمة عارف جعفر وسمية حنفي جارالله، يلعبن دورًا كبيرًافي تغيير المفاهيم الاجتماعية حول التعليم، خاصة في المناطق النائية، حيث كنَّ يقمن بحملات توعية بين الأهالي،مشجعاتٍ إياهم على إرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس، وتأكيدًا على أن التعليم ليس حكراً على الذكور فقط، بلهو حق لكل طفل، بغض النظر عن جنسه.
وقد كان من بين هؤلاء الرائدات زينب علي أبو غنيمة، أول فتاة أردنية تلتحق بدار المعلمات في أول مدرسة ثانويةحكومية تم تأسيسها في عهد إمارة شرقي الأردن، لم تقتصر إسهامات زينب أبو غنيمة على التدريس فقط، بل كان لهادور اجتماعي متميز في تشجيع الأهالي على إلحاق بناتهم بالتعليم، من خلال العمل الميداني وتفاعلها المستمر معالمجتمعات المحلية، كانت تسهم في تغيير المفاهيم الاجتماعية السائدة، حيث أكدت أن التعليم يجب أن يكونحقًا للجميع.
تؤكد هذه الجهود التاريخية أهمية دور المعلمة في تشكيل المجتمع، حيث كانت هؤلاء النساء يلعبن دورًا اجتماعيًاإلى جانب دورهن التعليمي، محارباتٍ للتقاليد السائدة التي كانت تقيّد فرص التعليم. ومن خلال العمل الميدانيوالتفاعل المباشر مع الأسر، استطاعت المعلمات التأثير على الأهالي، مما أسهم في تزايد نسبة الالتحاق بالتعليم فيتلك الفترة.
إن قرار تأنيث التعليم الأساسي اليوم هو تجسيد لهذه الجهود التاريخية التي بذلتها المعلمات الأردنيات، ويعكسالاستمرار في تمكين المرأة وتعزيز دورها، ففي وقتٍ كانت فيه معلمات مثل فاطمة سعيد مراد وليا موسى ميخائيليني وزينب علي أبو غنيمة يقدمن رسائل هامة حول أهمية التعليم، يأتي القرار الحالي ليكمل مسيرة المرأة في هذاالمجال، لكن الفرق اليوم هو أن هناك بيئة أكثر تهيئة لدور المرأة في التعليم، وأساسًا قانونيًا يحفز على وجودهاالمستمر في هذه القطاعات، حيث أصبح التعليم في الأردن يحظى بالاهتمام على المستويات الحكومية والتشريعية.
القرار يعكس رؤية الدولة في تعزيز دور المرأة التعليمية والاجتماعية، ويضع المعلمة في موقع قوي يمكنها منممارسة تأثير أكبر في تشكيل جيل جديد من الطلاب، كما أنه يعيد التأكيد على قدرة المرأة الأردنية على تغيير الواقعالاجتماعي من خلال التعليم، وهو ما بدأته المعلمات في بدايات القرن العشرين، حيث كنَّ يساهمن في حملاتتوعية اجتماعية لتغيير نظرة المجتمع نحو تعليم الفتيات.
حظي القرار بدعم واسع من قطاعات ترى فيه خطوة نحو تحسين البيئة التربوية، وتحقيق مخرجات تعليمية أفضل،كما اعتُبر فرصة لتمكين المرأة عبر تعزيز حضورها في قطاع التعليم، بما ينعكس إيجابًا على التنمية المجتمعيةالشاملة.
في المقابل، أعرب بعض المختصين عن مخاوفهم من غياب التوازن في النماذج التربوية اجتماعية.
إن قرار تأنيث التعليم الأساسي ليس معزولًا عن السياق العلمي أو التاريخي أو الاجتماعي للأردن، إنما امتداد لمسيرةطويلة قادتها نساء أردنيات تركن أثرًا عميقًا في وجدان الوطن، ومع التخطيط الجيد وتوفير الدعم المؤسسيالمناسب، يمكن أن يشكل هذا القرار نقطة تحول حقيقية نحو نظام تربوي أكثر احتواءً ورقيًا.
في نهاية المطاف، تظل الرؤية الأسمى للتعليم هي بناء الإنسان؛ والمرأة الأردنية كانت — ولا تزال — ركيزة أساسية فيهذا البناء العظيم.
د. زهور غرايبة