إنجاز-احتضنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال يومه الاثنين 12 ماي الجاري 2025، في سياق سعيها لتوسيع دائرة التفكير النقدي حول قضايا الذاكرة والتاريخ الوطني، درسا جماعيا ألقاه المؤرخ محمد بوكبوط بعنوان “أي تاريخ للمقاومة وجيش التحرير؟ قضايا منهجية” من تنظيم الفرق البحثية بالكلية وشعبتي علم الإجتماع والتاريخ.
افتتح المؤرخ محمد بوكبوط مداخلته النقدية والتحليلية في هذه الدرس، بأسباب اختياره لموضوع تاريخ المقاومة وجيش التحرير وذلك لاعتبارات كثيرة أهمها، أن أجيالا من تلاميذ المدرسة المغربية وطلبة الجامعة المغربية لم يلقنوا الكثير عن الموضوع خلال مسارهم الدراسي، وكثرة الكتب المتداولة سابقا وتدني نسبة قرائها إن وجدت، زد على ذلك لراهنية هذه القضية وتداول الصحافة بين الفينة والأخرى حدث له علاقة بها مما يثير زوابع من النقاش.
كما ركز بوكبوط على إشكالية كتابة تاريخ المقاومة وجيش التحرير بالمغرب خاصة في المقررات الدراسية والبحث الأكاديمي، معتبرا أن هذا التاريخ ينظر إليه من زاوية واحدة وعبر الرواية الرسمية التي تحكمت فيها الكتابة السياسية طوال عقود.
بدل من أن يكون تاريخ متعدد الأصوات، يعكس تضحيات مختلف الفئات والمناطق، يقول بوكبوط وما دمت قد ذكرت المقررات الدراسية… أشير إلى اختلاف منطلقات كل من تكييف الكتب المدرسية والبحث الأكاديمي في موضوع تاريخ المقاومة وجيش التحرير، الأول يهتم في تأليف الكتاب المدرسي الموجه لتلاميذ الابتدائي والإعدادي والثانوي بالجانب البيداغوجي من حيث تكوين التلاميذ وبناء شخصيته بما يناسب المنظومة التربوية فيما يسمى بالمواطن الصالح، والثاني له رأي آخر يفرض الإنضباط لأوائل المنهج المتعارف عليه في حقل التاريخ، بتناول وتقديم الأحداث والوقائع لأن رهانات البحث الأكاديمي هو البحث عن الحقيقة التاريخية بغض النظر عن هذا الإعتبار.
وقد شدد بوكبوط على أهمية الذاكرة الجماعية والرواية الشعبية من قبيل قصص المجاهدين خاصة البسطاء والمنسيين والشهادات الخاصة بالمناطق التي كانت في معركة المقاومة والتحرير لتربية الناشئين على قيم المواطنة والتضحيات في سبيل البلاد وسلامة أراضيها في صفوف جماهير الشعب عبر وسائل الإعلام.
كما جاهر بأهمية تدوين ذكريات المقاومة وجيش التحرير فضلا عن عدم الإنتباه إلى ما يدور به المجتمع من تحولات عميقة في ذهنية أجيال من الشباب تفصلهم سبعة عقود من الزمن عن مرحلة الدفاع عن الإستقلال، وانخراطهم في ثورة رقمية ومعلوماتية جعلت العالم قرية صغيرة مفتوحة، تؤثر بربطهم باهتمامات وقناعات بشكل أفضى بالأمر إلى سيادة نوع من اللامبالات في هذه الصفحات من التاريخ،الوطني، سببت تكرار واجترار لا يثير اهتمام كثير من الأجيال الشابة.
وأوضح المؤرخ على أن الإستمرار في منهج تبسيط الأحداث التاريخية وحجز الكثير من حقائقها يجعل في طياته مسالك القفز على أحداث ووقائع يستحيل مكايفة المغرب المعاصر أو الراهن دون استجلال خباياها مع ما يترتب على ذلك من خلق فراغات في الذاكرة الوطنية الشيء الذي يجعلها تتحول إلى قنابل موقوتة تفجر ما سماه المؤرخ ب “حروب الذاكرة والثأر” ما يحمل ذلك من مخاطر كثيرة.
وقد شدّ بوكبوط على كشف أهم المشاكل التي تواجه كتابة تاريخ علمي وموضوعي لفترة المقاومة وجيش التحرير، وهو الوثائق والمستندات التاريخية التي تعتبر العمود الفقري لكل عملية تأريخ علمي لتلك الفترة، بل ولعديد من المراحل المفصلية في تاريخ المغرب كما جاء على لسانه: فقد شكل غياب الوثائق التاريخية عائقا أساسيا لكتابة تاريخ المقاومة وجيش التحرير، بسبب إحزام الكثير على هذه الوثائق وعدم الكشف عنها، ودور أغلبية المقاومين وجيش التحرير مقاومين بسطاء لم يدونوا شيئا أو تم إحراق الوثائق من لدن القادة تبعا لمقتضيات العمل السري. كما أن أحد أهم هذه الأسباب ضياع هذه الوثائق في الظروف السياسية العصيبة التي عاشتها المقاومة وجيش التحرير خلال ما سميته بسنوات سبتمبر الأولى.
كما كشف على أن أكثر العوامل التي جعلت الأمر أكثر تعقيدا في تاريخ المقاومة هو اندلاع الصراعات والإغتيالات التي طالت وجوها بارزة من المقاومين أمثال عباس المساعدي، عبد الله الحداوي وغيرهم، ولم يظل إلا القليل ما وصفه بالكتيبات التي أصدرها بعض المقاومين في بدايات الإستقلال، “كفاح ملك الشعب” الصادر سنة 1958م والذي جاء في مقدمته ” إن صفحات هذا الكتاب تظم حقبة دقيقة من تاريخ الأمم المغربية، الحقبة التي ولدت فيها المقاومة التاريخية…. التي تمثل المقاومين الحقيقيين”. زد على ذلك ما كتبه عبد الرحمن الصنهاجي في كتاب “مذكرات في تاريخ المقاومة وجيش التحرير”، إن هنا سببا أخر هو الإنحصار الذي فرض على المقاومين فلزم بعضهم منازلهم لا يستطيعون الإفصاح عن حقيقة تاريخ المقاومة، كما اضطر البعض منهم السفر خارج الوطن حيث دام الحصار مدة 16 عاما، فكان من البديهي إخفاء وثائق تاريخية لتاريخ المقاومة وجيش التحرير.
وفي ختام أشغال هذا الدرس الجماعي، أكد محمد بوكبوط ان خلال هذه المنعطفات التاريخية الكبرى للأمم تلعب المعرفة التاريخية دورا حاسما في تعبئة الطاقات ورصد الصفوف، وذلك من خلال التصالح مع الماضي بإيجابياته وسلبياته، وتنقية التاريخ من الشوائب مما يسهم في تسجيل وعي تاريخي متين يمنح للأمة تلك المناعة التي تقيها من الهزات والإضطرابات المرتبطة بالذاكرة الجماعية، لأن أي تاريخ مشوه لا ينتج إلا تاريخا مشوها.