حسام الحوراني يكتب
في زمنٍ تتزاحم فيه التحديات وتضيق فيه الأفق أمام شبابنا، تخرج من بين جبال الكرك قصة تلامس الروح وتوقظ في القلب شعلة الأمل. قصة ليست من نسج الخيال، بل من لحم الواقع وعظم الكفاح، بطلها شاب أردني «عادي»، لكنه آمن بأن «العادي» يمكن أن يصبح استثنائيًا حين يقترن بالإيمان والعمل والصبر. إنها حكاية المهندس صلاح العقبي، الذي لم ينتظر الفرص، بل خلقها من العدم، وجعل من غرفة صغيرة خلف بيته بوابة إلى العالم. قصة تقول لكل شاب عربي يشعر بأن طريقه مسدود: لا تُسلم مفاتيح حلمك للظروف، ولا تُطفئ شغفك لأجل واقعٍ مؤقت. فبين يديك القدرة على أن تبدأ، ولو من لا شيء، وأن تصل… لو صدقت النية وأخلصت السعي وصبرت. فما القصة ايها العرب؟
في قرية هادئة من قرى محافظة الكرك جنوب الأردن، وقبل اكثر من 25 سنة، حيث الحياة متواضعة وتسير بوتيرة بسيطة، نشأت واحدة من أكثر القصص تأثيرًا وإلهامًا في عالم الريادة الصناعية الاردنية بامتياز. قصة ليست عن المليارات ولا عن ورشات الأعمال العالمية، بل عن شاب أردني اختار أن يحوّل لحظة عابرة وجملة سمعها إلى مستقبل باهر، وأن يغيّر العالم من خلال قطعة صغيرة من الطباشير.
كان صلاح يعمل مهندسًا كيماويًا في أحد مصانع التعدين براتب متواضع بالكاد يكفي أساسيات الحياة. عمله كان روتينيًا، يغلب عليه الطابع اليومي المتكرر. لكن داخله كان يغلي بشيء آخر… بركان من الطموح، وحلم لا يهدأ. لم يكن يرى نفسه موظفًا إلى الأبد، بل كان يشعر أنه وُلد ليترك بصمة مختلفة، ليبني شيئًا يُذكر، مشروعًا يكون له، ويكون امتداده في الحياة. سبع سنواتٍ قضاها متنقلاً بين وظائف متقطعة، وأوضاع معيشية صعبة، حتى أنه فُصل ذات يوم تعسفيا من إحدى الشركات دون أي مبرر. ومع كل ذلك، لم تطفأ جذوة الحلم داخله، وإن أوجعته الحاجة.
وفي أحد الأيام، وبينما كان عائدًا من عمله في حافلة ، شارد الذهن يفكر في مصيره، كان سائق الحافلة قد شغّل المذياع لتسلية الركاب لتقصير المسافات. وإذا بصوت المذيع يقول «لا يوجد في الأردن حتى الآن مصنع متخصص لإعادة تصنيع الكربونات، مثل مصنع الطباشير.» كانت تلك الجملة كفيلة بأن توقِف الزمن بالنسبة لصلاح. شعر وكأن الحياة كلها توقفت لتُمرّر هذه الرسالة تحديدًا له. رفع عينيه للنافذة، لكنه لم يرَ الطريق… بل رأى فرصة. أيقن حينها أن هذه الجملة ليست مجرد خبر عابر، بل بابٌ فُتح له وحده.
لكن صلاح لم يكن جاهزًا بعد. لقد انتظر سبع سنواتٍ بعدها، يفكّر، يخطّط، يبحث، يصارع ظروفًا قاسية، حتى اتخذ القرار الصعب: أن يبدأ. بدأ بغرفة متواضعة خلف بيت أهله، بعد أن اقترض مبلغًا من أحد أصدقائه، بل ورَهَن بيت والده ، ليجمع المال اللازم لشراء المعدات وبدء المشروع الصغير – معمله الصغير . لم يكن هناك مختبر متطور، ولا أدوات دقيقة ولا تكنولوجيا متقدمة. لكن ما كان يملكه فاق كل ذلك: النية والارادة والعزيمة والإيمان.
وبعد جهد طويل، نجح في بيع أول دفعة من الإنتاج. إلا أن المفاجأة الكبرى كانت بانتظاره: الجهات التربوية والتعليمية لم تعد تقبل بالطباشير التقليدي، بل تطلب طباشيرًا لا يُصدر عنه غبار وبمواصفات جديدة، حفاظًا على صحة الطلبة. وجد صلاح نفسه أمام أزمة خانقة بعد أن أنشأ مصنعه، فإما أن يستسلم، أو يخترع.
فعل ما لم يفعله أحد. لعامين كاملين، لم يترك سطرًا مكتوبًا عن الطباشير إلا وقرأه، لم يتجاهل مقالة أو دراسة، بل حتى الروايات التي تذكر كلمة «طباشير» كان يقرأها. جرب، فشل، وأعاد الكرة مئات المرات. كرر رحلة التجارب. محاولة تلو الأخرى، وكل محاولة تنتهي بفشل. لكنه لم يكن يراها فشلًا، بل خطوة نحو النجاح. بقي صلاح في صراعه الكيميائي لأيام، لأسابيع، ولشهور. الناس من حوله تابعوا حياتهم، وبعضهم نسي حلمه، لكنه لم ينسَ. كان يعود من عمله ليتناول لقمة سريعة، ثم يدخل عالمه الصغير، يجرب، ويدوّن، ويعيد الكرّة. ومع كل إخفاق، كان قلبه يزداد إصرارًا، وكان لا يعلم انه في اعماق نفسبة كان يردد الآية: «إنه من يتقِ ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.»
وعندما وصلت محاولاته إلى الرقم 2149 بعد سنتين من العمل الشاق والمحاولات والتجارب، تحققت المعجزة. ولد الطباشير الآمن، الخالي من الغبار. منتج بسيط، لكنه عظيم الأثر. لم يكن مجرد نجاح كيميائي، بل انتصارًا على اليأس، وإعلانًا أن من يعمل بصدق لن يعود صفر اليدين. . ومن هناك… بدأ طريقه نحو العالم، ليصبح مصنعه مصنع الامل!
لكن النجاح لا يطرق الباب مرة أخرى إن لم يجد من يستقبله. صلاح لم يكتفِ بالتركيبة والنتاج التقليدي، بل قرر أن يحولها إلى مشروع عالمي . اقترض مبلغًا من المال من أحد أصدقائه، وبدا بزيارة المعارض العالمية. بدأ يُنتج، ويُسوق، ويشرح للناس لماذا طباشيره مختلف. لم يكن يملك فريق تسويق محترفا ومتخصصا، ولا شركة علاقات عامة، بل كان هو كل شيء: المهندس، والمصمم، والمسوّق، وحتى العامل. حمل الطباشير وبدء يجوب المحافظات والمدارس الخاصة حتى المكتبات الصغيره بسيارته المتواضعة ليبيع كرتونة طباشير هنا و خمسة كراتين هناك!
ومع مرور الوقت، بدأت نتائج الجهد بالظهور. المدارس بدأت تشتري، ثم الجامعات، ثم مختلف الجهات، ثم بدأت الطلبات تأتي من خارج الأردن. لم يتوقف. طوّر المنتج، حسّنه، وسّع خطوط الإنتاج، والان أصبح مصنعه يصدر إلى أكثر من 150 دولة حول العالم ويخدم ويشغل مئات العائلات الكركية. نعم، من غرفة متواضعة في الكرك، إلى قارات الأرض الخمس.
وقد تشرف المهندس صلاح بزيارة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، حفظه الله، إلى مصنعه، حيث اطّلع جلالته على مراحل الإنتاج وتجوّل بين أقسامه على أرض الواقع، في زيارة ملكية تحمل أسمى معاني الدعم والاهتمام.
قصة المهندس صلاح العقبي ليست فقط عن طباشير، بل عن صناعة الحلم في ظل أقسى الظروف. هو لم يكن من أصحاب الملايين، ولا من خريجي الجامعات العالمية ، ولا ممن تربوا في بيئات مرفّهة، لكنه امتلك ما هو أهم: الطموح الذي لا يُقهر، والإيمان بأن الله لا يخذل من صدق النية والعمل.
إنها قصة تثبت أن الريادة لا تحتاج إلى مكان أو زمان مثالي، بل تحتاج إلى عقل حي وقلب مؤمن. وهو المثال الأصدق على أن الابتكار لا يولد في المكاتب الفاخرة، بل في العقول التي ترفض الاستسلام.
صلاح لم يكن يعيش في عمّان أو دبي أو نيويورك، بل في الكرك. تلك المحافظة التي يظن البعض أنها نائية، لكنها ولّادة للعزيمة. استطاع أن يصنع من تراب الجنوب ذهبًا، ومن حلم عابر في حافلة ركاب، الى شركة عالمية.
الملفت في صلاح ليس فقط اختراعه، بل استمراريته. لم يتوقف عند حدود الطباشير، بل توسّع في مجالات متعددة، واستثمر نجاحه في تطوير منتجات أخرى، وتنويع مصادر دخله، والمساهمة في خلق فرص عمل لأبناء منطقته. والان يمشي بخطى ثابتة لانشاء شركات عالمية لمختلف القطاعات والصناعات في المنطقة والعالم ، يجوب القارات جميعا ويجتمع مع قادة الشركات والريادين في المنطقة والعالم. لقد فهم أن النجاح الحقيقي لا يُقاس بعدد الدول التي تُصدر إليها، بل بعدد الأيادي التي تساعدها، والقلوب التي تُلهمها. لقد اثبت صلاح ما نشرته في احد المقالات بان «النجاح ليس وجهة، بل هو رحلة طويلة، مليئة بالأمل، والإيمان، والصبر».
لم يكن صلاح وحده في رحلته الشاقة نحو النجاح، بل كان محاطًا بسند لا يقدّر بثمن. فقد كان والداه أول الداعمين له، يؤمنان به منذ البدايات، ويمنحانه الثقة التي كان يحتاجها في كل لحظة شك. والده لم يتردد يومًا حين قرر صلاح رهن البيت للحصول على تمويل للمشروع، وقف إلى جانبه بكل شجاعة، وكأنه يقول له: «اختر الحلم… وأنا خلفك.» أما والدته، فكانت روحه حين تُرهقه الأيام، تدعو له في كل صلاة، وتُمسك بيده بالدعاء قبل الفعل، تهمس له: «الله ما بيضيعلك تعب يا يمّا»… وكان صلاح يؤمن أن سرّ ثباته كان في دعائها الصادق.
ولم تكن زوجته وإخوانه وابناؤة بعيدين عن هذا البناء العظيم. كانوا له عونًا في كل محطة، يدًا تشتغل معه، وكتفًا يسنده إذا مال. تبادلوا الأدوار معه في التعب، ساعدوه في تجهيز المعدات، ونقل البضائع، وحتى في الأيام التي كان فيها المصنع بالكاد ينتج، لم يتركوه. كانوا عائلته وسنده، وجدار الثقة الذي لم يسمح له بالسقوط. صبرو معه على تقلبات الظروف، وساندوه حين ترددت خطاه. كانو يزرعون في قلبه الأمل، ويرددون على مسامعه: «أنت تقدر… ومشروعك راح يكبر»، ليصبحوا جميعا نبع العزيمة الصامت في كل قراراته. لقد كان حلم صلاح كبيرًا… لكن من حوله كانوا هم من أعطوه الأجنحة ليحلق.
لقد تحول المهندس صلاح العقبي إلى رمز. رمز لمن يؤمن بأن النجاح حلال الطيبين الصادقين. لمن يدرك أن الإبداع لا يحتاج إلى تصريح، بل إلى قرار داخلي بأننا نستطيع. لمن يثق أن كل فشل هو مجرد درس، وأن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملًا.
إن قصته يجب أن تُدرّس في المدارس والجامعات، وتُعرض في المؤتمرات، وتُكتب في الكتب. لأنها ليست قصة رجل واحد، بل قصة جيل كامل يمكنه أن ينهض إذا آمن بذاته، واتقن عمله، وصبر على الطريق.
صلاح هو الصوت الهادئ الذي يقول لنا كل يوم: لا تيأسوا، فالله يرى ويعلم. وهو اليد التي تمتد لتقول: تعالوا نصنع من المستحيل ممكناً. وهو الدليل الحي على أن الجنوب منبعًا للريادة والابتكار والعقول الجباره.
حين تسير اليوم في أروقة مصنعه، ترى عمالاً يبتسمون، ومنتجات تُجهز للتصدير، وزوارًا من دول عدة، لكنك حين تخرج، لا تنسى الغرفة القديمة خلف منزله، حيث وُلد كل شيء.
قصة المهندس صلاح العقبي ليست مجرد سيرة نجاح فردية، بل شعلة يمكن أن تضيء طريق الآلاف من الشباب الأردني والعربي الذين يظنون أن أحلامهم أكبر من واقعهم. إنها تقول لهم، بصوت التجربة الصادق: ليس شرطًا أن تكون في عاصمة، أو تملك تمويلاً ضخمًا، أو شبكة علاقات واسعة لتبدأ. بل يكفي أن تمتلك فكرة صادقة، وإرادة لا تلين، وإيمانًا بأنه من يتقي ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنيين.
قصة صلاح ستلهم كل شاب يعيش في قرية أو مدينة، كل من يشعر أن العالم لا يراه، أن يؤمن أن قصته يمكن أن تبدأ من غرفة خلف البيت، وتصل إلى كل بيت في العالم. إنها دعوة لتجاوز الإحباط واستنهاض القوة الكامنة في الداخل، وللانتصار على لحظات الضعف والشك، ولإحياء الأمل في أحلك الظروف، ولتحويل العثرات إلى بدايات جديدة، ولزرع الرجاء في أرض الواقع مهما كانت قاسية، وللاستثمار في العقول قبل رؤوس الأموال، وللثقة بأن الوطن العربي ما زال يزخر بمبدعين قادرين على التغيير متى ما آمنوا بأن المستحيل ليس أكثر من فرصة تنتظر من يطرق بابها.
إنه الصديق العزيز والاخ الخلوق والمهندس والمخترع والمبتكر والمثابر والملهم… إنه صلاح العقبي، الحلم الأردني الذي أصبح حقيقة عالمية! واقول :
يا الكرك يا عزّ العرب والفواريس
يا صيت دارٍ ما تغيّر رصيده
لك بالمواقف طيب فعلٍ بلا تدنيس
ولك بالسما قدرٍ يدوّي رعيده
وأنتِ الكرك، تبقين بين القواميس
سيفٍ على روس المعالي نغيده
يا زين ماضيها وسيف المحابيس
ويا طيب حاضرها ونخوة وليده
أرضٍ إذا صاح الزمن بالمغاثيس
تلقى النشامى دايمٍ في رصيده
ومَن عاش فيك يعيش عِزٍ بلا تنكيس
يرتوي من طيب أرضك وريده
فيها صلاح اللي تحدّى المقاييس
بالحلم والعلم ارتقى من قيده
أنتم سنام المجد وأهل المراويس
وأفعالكم تبقى على الوقت شهيده
والكرك تبقى غالية بين النواميس
دار الكرامه والمواقف الفريده
دارٍ على العليا تعلي المراميس
ما هيب تحتاج المديح وقصيده
تمّت حروفي وانتهت دون تدليـس
وصلّوا على المختار وبالمحبة نزيـده
* خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقم