من التمييز إلى التضامن
المتعايشون مع “نقص المناعة” بشر.. مثلنا
إنجاز – عمان – غدير السعدي
أمل شابة مفعمة بالإيجابية والنشاط فهي بعمر الورود.. كأي فتاة.. حلمت بارتداء “الأبيض”.
لكنها لم تكن تعلم أن يوم زفافها سيحمل تحولاً مفصلياً في حياتها؛ فزوجها (طليقها لاحقاً) الذي يعمل في تل أبيب مصاب بمرض نقص المناعة (يعلم ولم يخبرها).
بدأت أمل، وكانت حينها تبلغ (22) عاماً، تعاني من تعب وتغير في وظائف الجسم، راجعت أقسام الطوارئ بعد 20 يوما من زواجها، ليعلق عليها (بتتدلع) ويخرجها من المستشفى عنوة، إلى أن جاء اليوم الذي علمت بأنها أصبحت من المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشري، بعد زيارة مركز المشورة التابع لوزارة الصحة.
أمل (وهو اسم مستعار) مهندسة ومن الأوائل في تخصصها، وهي اليوم أم لطفلة تبلغ (7 سنوات) غير مصابة. كانت تخاف من رعاية ابنتها خوفاً من نقل الفيروس إليها.
مسؤوليات أمل كبيرة وتفكر في كيفية في إخبار ابنتها حين تكبر، تحاول أن تواجه تحديات العمل والبيئة المحيطة، فهي مهندسة متفوقة. لكن تم فصلها من عملها بعد علمهم بمرضها من صديقتها التي نهشتها الغيرة من تفوق أمل وتقدمها في العمل.
هذا حال وليد كذلك، فهو جاء إلى الحياة حاملا للمرض، يتناول يوميا جرعة كبيرة من الدواء لكنه لم يكن يعلم ما هي وما مرضه، حتى كبر وبحث على الشبكة العنكبوتية عن أسماء الأدوية ليكتشف ما لم يكن يخطر بباله، وصار يقارن نفسه بالآخرين، ويبتعد عن المجتمع خوفا من أن ينقل العدوى لغيره.
وليد (اسم مستعار) من مواليد ٢٠٠٥، هو اليوم في حالة تشتت، يفكر في مستقبله وتعليمه وعمله، فوالداه مصابان، يخطو نحو الحياة بخوف.
وهو حال مئات المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشري، يوصمون بالعار ويُحكم عليهم مسبقاً ويُربط مرضهم بالممارسات السلبية، فأي متعايش هو إنسان يستحق الحياة بكرامة، والعلاج بعدل، والرعاية بدون شرط أو تمييز، وهذا الحق لا يُنتزع بسبب تشخيص طبي، ولا يُختزل في ملف سري أو نظرة دونية.
التوعية والدعم والخدمات.. قاصرة
المدير التنفيذي لمركز “سواعد التغيير” عبدالله حناتلة، يقول إن الأشخاص المتعايشين مع الفيروس انتقلت إليهم العدوى لسبب أو لآخر بإحدى طرق التعرض، لكن لم تظهر عليهم الأعراض بسبب مقاومة مناعة الجسم للفيروس، و ما يعني أن المتعايش هو الشخص الذي يحمل فيروس نقص المناعة البشري بدون ظهور أي أعراض، سواء بتناول العلاج أو لا بدونه.
الأعراض تظهر على الأشخاص المتعايشين الذين لا يتلقون العلاج، أما متلقو العلاج فيحققون قمعا للفيروس وتصبح فرصتهم بالحياة كأي إنسان غير مصاب سواء الزواج والإنجاب والعمل، ولا يوجد ما يحد من قدرتهم على ممارسة حياتهم .
عام 2024 سجلت نحو 90 حالة، وعام 2023 فسجلت حوالي 63 حالة، وكان المعدل السنوي سابقاً لا يتجاوز 20 حالة، ما يعني أن هناك تضاعفا في عدد الإصابات المسجلة.
أما حول آلية التعامل مع المتعايشين، فلا توجد قوانين تميزية ضدهم، لكن، لا توجد قوانين لحمايتهم عند التعرض للوصم والتمييز، وبالتالي يتم فصلهم من العمل تعسفياً عند العلم بإصابتهم بدون وجود حماية.
كما لا يمكن للمتعايش الدفاع عن نفسه بسبب ضعفه، لأن الإصابة بهذا الفايروس مرفوضة اجتماعياً ومرتبطة بالوصم والتمييز، وبالتالي لا يستطيع اللجوء إلى القضاء وتُنتهك حقوقه بشكل واضح بدون أن تستطيع أي جهة الدفاع عنه.
فالمفهوم المجتمعي حيال الفيروس ينطوي على الوصم والتمييز والحكم المسبق والتهميش والاستضعاف وربطهم جزافا وظلما بسلوكيات وممارسات، وبالتالي هناك أحكام مسبقة تقلل من شأن الشخص المصاب وتميز ضده.
عند مراجعة مؤسسات تقديم الخدمات الصحية فإن الكوادر الصحية (وهذا مثبت عالمياً) تمارس الوصم والتمييز ضدهم، لكن وزارة الصحة في الأردن متميزة بتقديم العلاج لأشخاص المتعايشين ولديهم جهة محددة وهو البرنامج ومركز المشورة والفحص الطوعي الذي يقدم العلاج ويتابع الأشخاص المتعايشين .
غير أن المشكلة تكمن عند مراجعتهم لمستشفيات أو مراكز طبية لانهم يتعرضون للوصم والتمييز والامتناع عن تقديم الخدمة او يتم تقديمها بطريقة لا تليق باحترام حقوقهم الصحية.
كما تكمن جوانب التقصير في عدم وجود قوانين لحمايتهم ومعاقبة الأشخاص الذين يمارسون التمييز ضدهم أو المنتهكين لحقوقهم، وهناك جانب من التقصير الاجتماعي مبني على الافتراضات والانطباعات الخاطئة والحكم المسبق حيال المرضى.
حقوق الإنسان مسؤولية طبية واجتماعية
الخبيرة في حقوق الإنسان الدكتورة نهلة المومني، ترى أن الأردن خطا خطوات رائدة في مجال التعامل مع مرض نقص المناعة المكتسبة، ووضع الآليات والإجراءات اللازمة بما يضمن تقديم الخدمات للمرضى المصابين به بدون تمييز وتمتعهم بالرعاية الصحية وفي الوقت ذاته حماية باقي الأفراد.
وتستدرك بالقول إن هذه التطورات، ولغايات الاستمرار والتوسع فيها، لا بد من تجاوز بعض التحديات القائمة وذلك من خلال التوسع في الخدمات المقدمة في المحافظات جميعا، وزيادة عملية التأهيل النفسي لهذه الفئة نظرا لما يعانيه هؤلاء على المستوى النفسي والاجتماعي والوصمة الاجتماعية.
وكذلك التركيز على زيادة الوعي لدى المتعاملين معهم بالمرض وسبل انتقاله وآلية التعامل مع المرضى من هذه الفئة، والتوسع في المتابعة مع المتعايشين بخصوص إجراء الفحوصات الدورية والتأكد من التزامهم بها وبالعلاج.
المتطلبات الصحية.. أكثر من حبة دواء
الدكتورة تقوى الصرايرة، طبيبة عامة، عضو فريق “مركز سواعد”، ومساهمة في التوعية المجتمعية بحقوق المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشري، تلفت إلى أنه رغم التقدّم في العلاج ورفع الوعي، ما يزال كثير منهم يواجهون عقبات صحية واجتماعية تنتهك أبسط حقوقهم، وتُقيد وصولهم إلى الخدمات الأساسية..
فالحق في الرعاية الصحية ليس مجرد شعارات، بل مسؤولية تترجم على أرض الواقع من خلال ضمان الوصول الكامل والمتساوي إلى الخدمات الصحية، بدءاً من العلاج، ومرورا بالتشخيص والدعم النفسي، والمتابعة والرعاية الشاملة.
ووتؤشر إلى أنه بينما يُنظر إلى توافر العلاج الدوائي كمؤشر تقدّم، تغيب أحيانا الأركان الأخرى للرعاية، فيعيش المتعايش بين ما هو متاح وما هو مستحق.
وترى الصرايرة أن الرعاية الصحية المتكاملة لا تتوقف عند العلاج الدوائي، فهناك احتياجات أساسية ما تزال تعاني من ضعف أو غياب، وتشكل فجوة في منظومة الدعم الشامل، منها؛ نقص في خدمات الدعم النفسي المتخصص داخل المراكز الصحية، وعدم دمج خدمات الصحة الإنجابية والجنسية ضمن حزمة الرعاية.
وهو، بتقديرها، ما يترك الكثير من المتعايشين دون توجيه أو رعاية ملائمة، وغياب خدمات طب الأسنان المتخصصة ضمن الرعاية الأساسية لأنهم معرضون لمشكلات فموية متكررة كالتقرحات والتهابات، وعدم توافر برامج فحص دوري للكشف عن الأورام المرتبطة بفيروس نقص المناعة، مثل ساركوما كابوزي، مما يقلل من فرص الكشف المبكر والتدخل الوقائي.
وتقدر الصرايرة أن الحقوق والمتطلبات الصحية الغائبة للمتعايشين تشمل عدم إدماج الرعاية التغذوية كجزء من البروتوكول العلاجي، على الرغم من تأثير الحالة المناعية، وعدم توافر خدمات رعاية مخصصة للمتعايشين كبار السن، ما يستوجب رعاية تراعي تحديات الشيخوخة ضمن خطة الرعاية الشاملة.
وكذلك تنبه إلى غياب التدريب الكافي للكوادر الطبية في بعض المؤسسات على التعامل المهني الخالي من التمييز مع المتعايشين، مما يؤدي أحيانا إلى رفض تقديم بعض الخدمات أو التعامل معهم بحذر مبالغ فيه، في ظل غياب منصة رسمية تُقدم المعلومات المحدثة.
وتعتقد الصرايرة أن محدودية التثقيف الصحي المستمر للمتعايشين، وعدم توافر خدمات المشورة بشكل دائم ومنهجي داخل مراكز العلاج، تضعف من فرص الدعم النفسي والسلوكي المنتظم للمتعايشين، وقلة برامج التوعية الموجهة للأسر والمجتمع المحيط، بهدف تحسين جودة الحياة.
كما تلفت إلى محدودية الوصول إلى الرعاية في المناطق النائية أو البعيدة عن العاصمة، ما يشكل عبئاً إضافياً على المتعايشين من حيث الوقت والتكلفة والالتزام بالعلاج، وغياب آلية واضحة لتلقي الشكاوى أو الإبالغ عن التمييز في المرافق الصحية، مما يحرم المتعايشين من حقهم في الحماية والعدالة عند التعرض لسوء معاملة.
إن بناء نظام صحي عادل للمتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشري لا يتحقق بتوفير الدواء فقط، وإنما يبدأ من الاعتراف الكامل بحقوقهم، وتقديم رعاية شاملة تُنصف أجسادهم، وتحترم مشاعرهم، وتؤمن بكرامتهم، والانتقال من الخوف إلى الفهم.. من التحيّز إلى العدل.. من الوصمة إلى التضامن.. فلا تزر وازرة وزر أخرى.