على ربى عمان.. متحف الحياة البرلمانية يجسد لحظة الاستقلال ويروي مسيرة الأردن
(بترا)- رانا النمرات – على ربى جبل عمّان العريق، في قلب العاصمة، يقف متحف الحياة البرلمانية شامخًا، كأحد أبرز الشواهد الوطنية الحية التي تجسد تاريخ الدولة الأردنية، ومسيرتها السياسية والديمقراطية منذ التأسيس وحتى اليوم.
وفي إطار تغطيتها لاحتفالات المملكة بعيد الاستقلال التاسع والسبعين، جالت وكالة الأنباء الأردنية (بترا) في أروقة المتحف، ووقفت على رمزيته التاريخية ومحتواه التوثيقي، الذي يسرد من خلال معروضات تفاعلية وتوثيقية محطات مفصلية في بناء الدولة، وفي مقدمتها لحظة إعلان الاستقلال، والتطور الدستوري للحياة النيابية الأردنية، ودور الأردنيين في ترسيخ قيم المشاركة وبناء دولة المؤسسات.
ومع احتفالات المملكة بعيد الاستقلال التاسع والسبعين، يبرز هذا الصرح التاريخي بكل ما يحمله من رمزية، بصفته المكان الذي أعلن منه استقلال المملكة الأردنية الهاشمية في الخامس والعشرين من أيار عام 1946، حيث خطّ الأردنيون آنذاك أول سطور الدولة الحديثة، وبويع الأمير عبدالله الأول، طيّب الله ثراه، ملكًا على البلاد، إيذانًا بعهد جديد من السيادة الوطنية.
وفي هذا الإطار، تتجدد في المتحف كل عام معاني الفخر والاعتزاز بهذه اللحظة المفصلية؛ إذ لا يكتفي بأن يكون ذاكرة موثقة لتاريخ الحياة البرلمانية في الأردن، بل يتحول إلى منصة وطنية فاعلة تبثّ روح الانتماء والولاء، وتُعلي من شأن الهوية الأردنية الجامعة، وتُعيد للأذهان مسيرة الأجداد الذين صاغوا استقلال الأردن بالجهد والنضال والإرادة الصلبة.
كما يؤدي متحف الحياة البرلمانية دورًا وطنيًا عميقًا في ترسيخ مفاهيم الدولة المدنية الحديثة، وتعزيز الوعي السياسي لدى الزوار، من خلال ما يقدمه من محتوى معرفي وتاريخي توثيقي يعرض تطور الحياة السياسية الأردنية، منذ تأسيس الإمارة وحتى عام 2021، عام مئوية الدولة الأردنية، بكل محطاتها وتحدياتها وتحولاتها.
وفي مناسبة وطنية كعيد الاستقلال، تتجلى الرسالة الكبرى لهذا المتحف، باعتباره نافذة يُطلّ منها الأردنيون على إرثهم السياسي العريق، وقصة شعبٍ آمن بالديمقراطية، ومضى في بناء وطنٍ يرتكز على الدستور والمؤسسات والعدالة الاجتماعية.
يُعنى المتحف بإيصال هذه الرسالة الوطنية بكفاءة واقتدار، من خلال محتوى تفاعلي مصمم بعناية، يتفاعل معه الزائر بمختلف فئاته العمرية والثقافية. وتبرز أهمية المتحف بشكل خاص في استهداف الأجيال الشابة؛ إذ يُوفر لهم تجربة تعليمية حية، ترتبط بالواقع وتُحاكي التاريخ بطريقة تُرسّخ في وجدانهم معاني المواطنة والديمقراطية والحوار.
ومن خلال وجوده في قاعات البرلمان القديم، الذي استُخدم ما بين عامي 1942 و1978 لعقد جلسات المجلس التشريعي ومجلس الأمة، يشعر الزائر بعمق اللحظة التاريخية، ويعيش تفاصيلها لا كمتفرج، بل كجزء من الحكاية الوطنية.
لا يقتصر دور المتحف على توثيق الماضي فحسب، بل يمتد ليشكّل جسراً يربط الماضي بالحاضر، ويعزز الصلة بين المواطنين ومؤسساتهم الدستورية؛ إذ يحتوي المتحف مجموعة من الوثائق والمقتنيات ذات القيمة التاريخية، من أبرزها نسخة طبق الأصل من وثيقة إعلان استقلال المملكة عام 1946م، وكذلك نسخة من الجريدة الرسمية التي نُشر بها دستور عام 1952م.
كما تشمل معروضاته “بذلة” الملك المؤسس العسكرية، وخنجره، وهاتفه الشخصي، وأقلامه، وهي شواهد مادية تجسّد لحظة مفصلية شهدت ولادة الدولة المستقلة.
ويحتضن المتحف أيضاً لباس العرش لجلالة الملك عبدالله الثاني؛ إذ يرتديه جلالته في افتتاح مجلس الأمة وإلقاء خطاب العرش السامي، وكذلك يوم الجلوس الملكيّ. لتكون هذه المقتنيات ورمزيّتها بمنزلة تأكيدٍ على استمرارية الدولة وأصالتها، ونهجها الهاشمي المتواصل.
وقد صُمّمت الجولة المتحفية بطريقة تسلسلية وتفاعلية تتوزَّع على أجزاء المتحف الثلاثة، لتُقدّم سردًا حيًا ومتسقًا للحياة البرلمانية في الأردن، منذ بدايات التأسيس مرورًا بمحطات الاستقلال والتحول الدستوري، وحتى مشهد الدولة الحديثة.
وقد استُخدم العديد من تقنيات العرض البصري والسمعي الحديثة؛ حيث تبدأ جولة المجموعات بعرض فيلم قصير يوثّق المسيرة الوطنية، تليه جولة في أرجاء المتحف، تنطلق من قاعة البرلمان؛ حيث تُوِّج الملوك وأُعلِن الدستور، مرورًا بمكتبي رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الأعيان وحتى قاعة التشريفات، وصولًا لقاعات العرض التي تُعرضُ فيها القصة المتحفيّة، راوية حكاية هذا المكان.
وتتضمن صورًا نادرة، ووثائق رسمية، ومجسمات وأدوات استخدمها المشرّعون الأوائل، وصولاً إلى تسجيلات صوتية تُتيح للزوار سماع خطابات ملوك الأردن، في مشهدٍ يبعث الحياة في التاريخ، ويُضفي على الزائر بُعدًا وجدانيًا ومعرفيًا بالغ الأثر.
ويستقبل المتحف الزوار من مختلف الفئات، من طلبة المدارس والجامعات، إلى الباحثين والأكاديميين والسياح العرب والأجانب؛ إذ يُقدّم لهم المتحف جولات مصممة خصيصًا تناسب احتياجاتهم، وتعزز فهمهم للثقافة السياسية الأردنية، ولآليات العمل النيابي والتشريعي.
ويوفر أيضًا قاعدة بيانات رقمية دقيقة تضم كافة المجالس التشريعية والنيابية ومجالس الأعيان والحكومات منذ التأسيس، ويتم تحديثها باستمرار، وتُتاح للباحثين للاستفادة منها في دراساتهم وأعمالهم التوثيقية.
ومن البرامج المميزة التي يقدمها المتحف بالتعاون مع العديد من المؤسسات الأكاديمية، برنامج محاكاة العملية الانتخابية، الذي يُقام داخل قاعة مخصصة لهذا الغرض، صُمّمت بالتعاون مع الهيئة المستقلة للانتخابات؛ حيث يعيش الطلبة تجربة التصويت والاختيار، ويتعرفون عن قرب على مراحل وآليات الانتخابات، بما يرسّخ لديهم ثقافة المشاركة الفاعلة في الشأن العام.
وفي انسجام مع التحول الرقمي، أطلق المتحف مؤخرًا جولةً افتراضية تُمكّن الزوار من داخل الأردن وخارجه من استكشاف محتوياته عن بُعد، من خلال تجربة تفاعلية تجمع بين الابتكار وسهولة الوصول. وفي عام 2022م، أُطلق مشروع “متحف الحياة البرلمانية المتنقل” من مدينة إربد، ضمن احتفالات وزارة الثقافة بإربد عاصمةً عربية للثقافة لذلك العام.
ويهدف المشروع إلى نقل التجربة المتحفية التي يعيشها الزائر في مبنى المتحف التاريخي إلى مختلف محافظات المملكة، بما يُحاكي أجواء المتحف الأصلية. بدأت أولى محطاته في إربد، لينتقل بعدها إلى معان، ثم الزرقاء، فالعقبة، وعجلون، مع رؤية شاملة لتغطيته كافة المحافظات.
ويُعد المشروع مبادرة وطنية متكاملة تسعى إلى إيصال التاريخ السياسي الوطني إلى جميع أبناء الوطن، من خلال التعاون مع المؤسسات الثقافية والتعليمية، تعزيزًا لمبدأ العدالة الثقافية والمعرفية.
في سياق احتفالات المملكة بعيد الاستقلال، يستقبل متحف الحياة البرلمانية الزوار بمناسبة هذه الذكرى الوطنية العزيزة، التي تظل راسخة في وجدان الأردنيين، وتجسد معاني الفخر والاعتزاز بالسيادة الوطنية.
وإذ يُوجّه متحف الحياة البرلمانية رسالته إلى الأردنيين في عيد الاستقلال، فإنه يُذكّر بأن الاستقلال لم يكن نقطة نهاية، بل بداية مسؤولية مستمرة، تقتضي من الجميع مواصلة البناء، وحماية مكتسبات الدولة، والدفاع عن قيمها، والمضي في ترسيخ مؤسساتها القائمة على الشفافية والعدالة والديمقراطية.
فكما صنع الأردنيون استقلالهم قبل 79 عامًا، فإنهم اليوم أكثر عزمًا على استكمال مسيرتهم نحو أردن أقوى، ودولة أكثر رسوخًا، وهُوية أكثر إشراقًا في وجه كل التحديات.
ويظل المتحف، بكل ما يحمله من دلالات ومحتوى ومعنى، جزءًا لا يتجزأ من قصة الأردن، ومحرّكًا للوعي الوطني، ومصدر إلهام لأجيالٍ ستُكمل ما بدأه الآباء المؤسسون، في وطنٍ نذر نفسه للعزّة والكرامة، واحتفى ويحتفي دومًا بالحرية والاستقلال.
وأكد المؤرخ في تاريخ الأردن الدكتور بكر خازر المجالي، أن متحف الحياة البرلمانية، الكائن في مبنى المجلس التشريعي التاريخي الذي احتضن أولى جلسات المجلس التشريعي في الثاني من نيسان عام 1929، يشكّل محطة رئيسية في مسيرة توثيق التاريخ الوطني الأردني، مسلطاً الضوء على تطور الدولة الأردنية من الناحية التشريعية، ودور المؤسسة البرلمانية في صياغة القوانين والأنظمة التي نظّمت الحياة العامة وأسهمت في تقدم الدولة منذ نشأتها.
وأضاف المجالي، في حديثه لوكالة الأنباء الأردنية (بترا)، أن المتحف، من خلال معروضاته، يعكس البنية السياسية للدولة الأردنية القائمة على مبدأ المشاركة الشعبية، وأسس الحرية والاعتدال والانفتاح، مع رفض واضح لكافة أشكال التطرف والتمييز. ويُعد المتحف، بحسبه، رمزاً وطنياً لترسيخ الهوية السياسية، ويقدم تجربة معرفية توثق نشأة الدولة وتطور مؤسساتها الدستورية.
وأوضح أن تصميم المتحف جاء ليكون بمنزلة مدرسة برلمانية تفاعلية، تتيح للطلبة من مختلف المراحل التعليمية محاكاة العملية الانتخابية بجميع مراحلها، بدءاً من تسجيل الناخبين، مروراً بالاقتراع والفرز، وصولاً إلى إعلان النتائج، ضمن بيئة تعليمية يتوفر فيها دور رقابي وإشرافي يحاكي الواقع.
ولفت إلى أن أسلوب العرض داخل المتحف يتسم بالبساطة والجاذبية؛ بهدف إيصال معلومات دقيقة وموثقة حول مسيرة التشريع الأردني، مع التركيز على التحديات التي رافقت تطور التجربة الديمقراطية.
وبيّن المجالي أن المتحف يأخذ زواره في رحلة معرفية متسلسلة تبدأ من المراحل الأولى للحياة التشريعية، وتنتهي في قاعة المجلس التشريعي التاريخية، حيث يُعرض فيلم وثائقي يُجسّد تطور الحياة البرلمانية الأردنية.
وأشار إلى أن المتحف، رغم أهميته، لا يشكّل المصدر الوحيد للثقافة البرلمانية، إذ تُعد مؤسسات المجتمع المدني، من أندية ومدارس ومنتديات، شركاء فاعلين في تعزيز الوعي السياسي، في حين يوفر المتحف بيئة تعليمية تعيد إلى الذاكرة بدايات العمل النيابي في الأردن.
ولفت المجالي إلى أن من أبرز ما يقدمه المتحف، إلى جانب مضمونه التاريخي، هو الحفاظ على المبنى نفسه كمعلم وطني وتراثي، حيث بُذلت جهود علمية وفنية كبيرة لإعادة تأهيله وإحيائه بإشراف مباشر من مدير المتحف الدكتور المهندس ماهر نفش، ووفق أعلى المعايير المتخصصة في الحفاظ على الطابع التاريخي والمعماري.
ونوّه إلى أن محتوى المتحف لا يقتصر على المحطات الوطنية فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى توثيق محطات برلمانية إقليمية شارك فيها الأردنيون، بدءاً من عضويتهم في مجلس المبعوثان العثماني، ومروراً بمشاركتهم في مجلس عموم سوريا إبان الدولة العربية الفيصلية، حيث مثل الأردن فيه ثمانية نواب، وصولاً إلى أول لجنة نيابية أردنية عام 1923، والتي مهّدت لإصدار القانون الأساسي للدولة، إيذاناً بانطلاق الحياة التشريعية المستقلة.
وأكد المجالي أن المبنى التاريخي للمجلس كان قد تعرض في فترات سابقة لاستخدامات إدارية غير مناسبة، وتعديلات إنشائية كادت تمس بطابعه الأثري، إلى أن تم تبني رؤية واضحة لإنقاذه وتحويله إلى متحف وطني. وجاءت هذه الجهود ضمن أعمال لجنة التاريخ الأردني، التي تم من خلالها تكليف الدكتور ماهر نفش بإدارة المتحف، إلى جانب الإشراف على إعداد المحتوى المتحفي والبحث التاريخي الذي شارك فيه كل من الدكتور جورج طريف، بالإضافة الى مشاركته.
وفي السياق ذاته، أكد المؤرخ والإعلامي جورج طريف لـ(بترا)، أن إنشاء متحف الحياة البرلمانية لم يكن ثمرة جهود فردية، وإنما جاء نتيجة لقرار صادر عن اللجنة العليا لإعادة كتابة تاريخ الأردن، التابعة لوزارة الثقافة التي تشكلت بقرار من مجلس الوزراء في عام 2009. وقد انبثقت عنها لجنة متخصصة برئاسة الدكتور ماهر نفش، و عضوية “الدكتور جورج طريف” ، والدكتور بكر المجالي، والدكتور يحيى عيشان، حيث أولت اللجنة أهمية كبيرة لصياغة القصة المتحفية للمتحف، والتي تطلبت جهداً جماعياً كبيراً ومتابعة دقيقة من اللجنة العليا وأعضائها.
وأشار طريف إلى أن العمل على إعداد القصة المتحفية لم يكن مهمة عادية، بل انطلق من شعور عميق بالمسؤولية تجاه توثيق تاريخ الأردن وتجسيد إنجازات الهاشميين ورجالات الوطن، مع التركيز على إبراز التحولات الكبرى التي شهدها الأردن، وفي مقدمتها الاستقلال، وما تبعه من إنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية أرست أسس النهضة الأردنية الحديثة.
وحول خصوصية المتحف في مناسبة عيد الاستقلال، أوضح طريف أن متحف الحياة البرلمانية يمثل صرحاً وطنياً فريداً، يختلف عن سائر المتاحف؛ إذ لا يعرض آثاراً أو تحفاً مادية، بل يسرد قصة الوطن الأردني التي تمتد لأكثر من مائة عام، ويُبرز قدرة الأردنيين، بقيادة الملوك الهاشميين وبتكاتف رجالات الوطن، على مواجهة التحديات وتحقيق المنجزات.
وأضاف أن أهمية المتحف تنبع من كونه يجسد السردية الوطنية الأردنية بالكلمة والصورة والوثيقة، موثقاً التحولات السياسية الكبرى التي شهدها الوطن، وانعكاساتها على مختلف مناحي الحياة، كالتعليم والصحة والاقتصاد. وقد شهد مبنى المتحف محطات تاريخية مفصلية، كان أبرزها تتويج ثلاثة من الملوك الهاشميين: الملك المؤسس عبدالله الأول، الذي أعلن منه استقلال الإمارة عام 1946 وتحويلها إلى المملكة الأردنية الهاشمية، والملك طلال، طيب الله ثراه، الذي أعلن منه دستور عام 1952، والملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، الذي أعلن منه تعريب قيادة الجيش العربي.
وفيما يتعلق بعملية جمع الوثائق التي يعتمد عليها المتحف، أوضح طريف أن العمل تم عبر جهود دقيقة من قبل أعضاء اللجنة، مستندين إلى معرفتهم بأماكن وجود الوثائق في مراكز الوثائق والمخطوطات، مثل مركز الوثائق في الجامعة الأردنية، والمكتبة الوطنية، والديوان الملكي، ورئاسة الوزراء، بالإضافة إلى عدد من المؤسسات الرسمية الأخرى.
واختتم طريف حديثه برسالة وجهها إلى الأجيال المقبلة، دعاهم فيها إلى التمسك بثلاثة مبادئ رئيسية: أولها حب الوطن والاستعداد للتضحية في سبيله، وثانيها المساهمة في بنائه وتطويره وازدهاره تحت الراية الهاشمية، وثالثها الحفاظ على الإرث الحضاري والإنجازات التي حققها الآباء والأجداد، والبناء عليها لترسيخ الانتماء والولاء للوطن وتاريخه المجيد.
