يتفرد مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية بتقاليد راسخة تمتد لسنوات طويلة في تنفيذ استطلاعات ومسوحات عامة ومتخصصة للراي العام الأردني حول مواقف واتجاهات الناس والنخب من تشكيل الحكومات وملفات محلية أخرى تتصل بقضايا اقتصادية وسياسية وأخرى محلية.
لا أحد يستطيع ان يشكك ب “مؤسسية” المركز الذي يقف على أرضية ومنهجية علمية صلبة وتجربة عميقة راسخة في اجراء المسوحات، ولا يمكن الغمز واللمز في ذات الوقت من قناة القائمين عليه فجلهم أصحاب شهادات علمية في تخصصات العلوم السياسية والاحصاء والعلوم الإنسانية والاجتماعية ولهم صولات وجولات في البحث العلمي ومخاطبة الراي العام وابجديات قياسه.
لا شك ان استطلاعات المركز تشكل “مؤشرات” هامة وحيوية لصناع القرار كل حسب الجزئية التي تتعلق به سواء في الملف العام او الاقتصادي او الاجتماعي او الإعلامي وهكذا، وما إطلاق نتائجه رسميا امام الاعلام وبمواعيد ثابته ما هو التزام منهجي ومؤسسي وعلمي من القائمين على المركز وتأكيدا على الشفافية والثقة في الوصول والاشتباك مع الراي العام.
قد يختلف البعض، وبالتأكيد له أسباب ودوافعه، مع النتائج التي أعلنها المركز، كلها او جزئ منها، لكن الأكيد ان الاستطلاع لا يمكن الاستخفاف بنتائجه واهميته وموضوعاته وتوقيتاته في ظل غياب بديل او جهات أخرى مستقلة تقوم بهذا الجهد المسحي الشاق والمقدر بذات الوقت.
ما يعنيني كباحث متخصص في الاعلام والشؤون المحلية هو جزئية “الثقة بالإعلام” التي تناولتها نتائج استطلاع المركز بعد مرور 200 يوم على تشكيل حكومة الدكتور جعفر حسان. فنتائج الاستطلاع فيها ما يستحق القراءة والوقوف عنده بالتحليل خاصة تلك المتعلقة بالمزاج العام من أداء الاعلام.
أولى تلك المؤشرات ان هناك “ثقة كبيرة “من الأردنيين بالإعلام الأردني وبنسبة 67%، وثاني تلك المؤشرات ان هناك ارتفاعا “غير مسبوق “وبوقت قياسي في مستوى ثقة الأردنيين خلال 200 يوما وبنسبة فرق ما بين استطلاع ال 100 يوم واستطلاع ال 200 يوم بلغ 16% بعد ان كانت النسبة العامة لثقة الأردنيين بالإعلام 51%. والنتيجة الأهم هو الفارق الشاسع في مستوى ثقة الأردنيين بالإعلام الأردني بكل انواعه (رسمي وخاص) ومستوى ثقتهم بمنصات التواصل الاجتماعي والتي يقترب الفرق الى 20% لصالح المؤسسات الإعلامية (67%) مقابل 47% يثقون بمنصات التواصل الاجتماعي، وهذه النسبة الأخيرة ليست قليلة وتستدعي حديثا اخرا ليس مجال تفصيله هنا.
استطاعت مؤسسات إعلامية رسمية ان تتصدر ثقة المستطلع رأيهم، حتى لو لم تعجب تلك النتائج بعض من يقرأها، فالحقيقة الثابتة ان الدراسات العلمية المسحية لا تقدم وصفات ترضية للأذواق تتوافق مع حالات الغضب والرضا، بل تفجر الحقائق كما رصدتها أدوات البحث والمسح العلمي المتجرد من التحيز والهوى وثنائية والحب والكراهية.
وبحسب الاستطلاع حصدت قناة المملكة اعلى مستوى ثقة في مؤسسات الاعلام الأردنية (72%) يليها التلفزيون الأردني (66%) ثم بقية مؤسسات الاعلام الأردنية الأخرى (63%). ولهذه المستويات غير المسبوقة من الثقة عوامل منها ما يتعلق بالواقع الإقليمي المتفجر، وما يحمله من حملات تشويه وتضليل ممنهجة، استهدفت الدولة الأردنية ومواقفها السياسية المتوازنة من قضايا الإقليم، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فمنصات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت مرتعًا لحملات الشيطنة والتشكيك، مارست في بعض الحالات ضغطًا نفسيًا وفكريًا على الجمهور الأردني، محاولة زعزعة ثقته بمؤسساته الوطنية، بل وبخطابه السياسي المعتدل. هذا الضغط، بدلاً من أن يحقق غايته، أدى إلى رد فعل وطني معاكس؛ إذ دفعت هذه الحملات الأردنيين للتمسك أكثر بإعلامهم الوطني، بحثًا عن رواية موثوقة، مسؤولة، غير منفعلة ولا متسرعة، تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الوطن وتخاطب العقل قبل العاطفة.
الى جانب التطور النوعي في الأداء الإعلامي لبعض المؤسسات الأردنية وهذه الثقة ليست وليدة صدفة، بل يعكس جهودًا واضحة لتقديم محتوى مهني، قائم على الدقة، والتوازن، واتباع المعايير الأخلاقية والمهنية في التغطية. لقد أدرك الإعلام الأردني، الرسمي والخاص، أهمية أن يكون قريبًا من نبض الشارع، ناقلًا للحقيقة دون تهويل أو تهوين، وأن يثبت، في زمن التشكيك والتضليل، أنه المصدر الأقرب لمصلحة الناس والأكثر التزامًا بأمنهم المعلوماتي والفكري.
من العوامل المهمة أيضًا في تعزيز حالة الثقة بالإعلام الأردني، هو تفعيل الحضور الرقمي للمؤسسات الإعلامية والمسؤولين الرسميين على منصات التواصل الاجتماعي. فبعد سنوات من ترك هذا الفضاء نهبًا للشائعات والتأويلات والمعلومات المضللة، بدأت المؤسسات الأردنية تدرك أهمية أن تكون حاضرة وفاعلة وسبّاقة في هذا المجال. لقد باتت المؤسسات الإعلامية الاردنية، وكذلك حسابات المسؤولين، تستخدم المنصات الرقمية كأدوات تواصل مباشر مع الجمهور، مما عزز مصداقيتها وحدّ من الفجوة التي كانت قائمة بينها وبين الناس. هذا الحضور لم يقتصر على الترويج أو بث الأخبار، بل تطور ليشمل الرد والتوضيح والتفاعل، وهو ما جعل من الإعلام الأردني، حتى في بيئة التواصل المفتوحة، مرجعًا موثوقًا وبديلًا موضوعيًا للفوضى المعلوماتية.
ولا يمكن الحديث عن ارتفاع الثقة بالإعلام الأردني دون التوقف عند مستوى الحريات الإعلامية المقبولة والمعقولة التي يعيشها الأردن، وهي حريات ربما لا تصل إلى السقف المفتوح، لكنها وفّرت مساحة آمنة ومسؤولة سمحت للإعلام بأن ينقل الحقيقة ويعبّر عن الرأي العام دون الوقوع في فخ الفوضى أو الابتزاز الإعلامي.
إن ارتفاع ثقة الأردنيين بإعلامهم المحلي ليس مجرد رقم في استطلاع، بل هو مؤشر على وعي جمعي يتشكل في مواجهة الضغوط والتشويش الخارجي، وعلى حاجة الناس إلى إعلام يُشبههم، ويعبّر عنهم، ويدافع عن ثوابتهم الوطنية. لقد انتصر الإعلام الأردني، في هذا المفصل التاريخي، لأنه اختار أن يكون وطنيًا، مسؤولًا، عقلانيًا، وهو ما أعاد له جزءًا كبيرًا من مكانته في وجدان الأردنيين. إن ما أظهره الاستطلاع يمثل دعوة للإعلام الأردني كي يواصل هذا المسار التصاعدي، ولكن دون غرور، ودون استسهال. فالثقة، كما تُبنى بصعوبة، يمكن أن تهتز بسهولة إذا ما غابت الشفافية أو تراجعت جودة الطرح والتحليل والتحديث المستمر والدائم. وتحية كبيرة لمركز الدراسات الاستراتيجية ولكافة القائمين عليه.

قراءة في أرقام استطلاع الـ200 يوم .. الإعلام الأردني يستعيد ثقة الجمهور
أ.د. خلف الطاهات