بقلم الكاتب محمد علي فالح الصمادي أبو عباده
سيرة المرحوم خليفة مراد الصمادي: رجل القيم والإدارة النزيهة
ـ البذرة والانطلاق (1939 – 1961)
وُلد خليفة مراد خليفة الصمادي في بلدة عنجرة عام 1939، وترعرع في أحضان عائلة فلاحة علمته قيم الأرض والكدح. كان طالباً مجداً، أكمل دراسته الثانوية في عجلون ثم انتقل إلى أربد ليلتحق بمدرسة النهضة العربية ويحصل على شهادة التوجيهي (النظام المصري) عام 1958. في فجر نهضة الأردن، انخرط الشاب خليفة في المشاريع الوطنية كبناء قناة الغور الشرقية، محملاً بروح جيلٍ آمن بالقومية العربية وشارك في بناء دولته بكل عزيمة.
(1961 – 1986)
في 26 يونيو 1961، التحق خليفة الصمادي ببلدية عنجرة، ليكون حجر الزاوية في تأسيسها. شغل منصب محاسب وسكرتير، فكان الذاكرة الإدارية والركن المتين لأول رئيس للبلدة، المرحوم أحمد الحامد السيوف. هنا، بدأت أسطورة الرجل الذي حَوَّل وظيفةً توصف بأنها “بؤرة للواسطة والمحسوبية” إلى منصة للعدل والشفافية.
كان فلسفته: “الكل سواسية ولا فرق بين أحد على أحد”. ببساطة مذهلة، كسر القاعدة المتوقعة. لم يتحيز لعشيرة على أخرى، ولا لطائفة على أخرى. كان سلاحه الوحيد هو مخافة الله عز وجل، فاكتسب ثقة الجميع لأنه جعل مراجعة البلدية أمراً ميسراً لكل الناس، بلا حاجة إلى وساطة أو محسوبية. لقد كان رجل المبادئ في مكان المفاصلات، فأراح الناس وطمأنهم بأنهم أمام رجل يخاف الله.
الإرادة التي لا تعرف المستحيل
لم تستهلكه الوظيفة عن بناء ذاته. بإرادة صلبة وعزيمة قاهرة، استصلح أرضاً بوراً وحولها إلى جنة خضراء من الأشجار المثمرة التي جلبها بنفسه من لبنان. لم يكتفِ بذلك، فأقام مزرعة للدواجن ومصنعاً للطوب، محققاً معجزات اقتصادية بإمكانيات متواضعة، ليقدم درساً في الاعتماد على الذات.
كما أن طموحه العلمي لم يتوقف، فالتحق بجامعة بيروت العربية عام 1968، لكن ظروف الحياة القاسية حالَت دون إكمال دراسته، ليبقى شغفه بالعلم نبراساً يضيء طريقه.
إمام في الخير.. ورئيس بالتوافق (1989 – 1992)
كان حبه لبيوت الله جزءاً من إيمانه. في الثمانينيات، قاد بنفسه حملة لجمع التبرعات من دول الخليج بسيارته الشخصية، ليكون أحد الأعمدة الرئيسية في بناء وتجديد المسجد العمري الكبير في عنجرة، الذي لا يزال شاهداً على همته وعطائه.
ثم جاءت الثقة الكبرى من أهله. في عام 1989، اختاره أبناء عنجرة من جميع العشائر والأطياف لرئاسة البلدية، فنزل عند رغبتهم “مرغماً” متحملاً المسؤولية. خلال فترة رئاسته (1989-1992)، واصل نهجه في العدل والعمل لتطوير البلدة في كل المجالات، جاعلاً من “إصلاح ذات البين” ورفعة شأن البلدة همّه الأول، دون تمييز.
الرحيل والخلود (1994)
بعد أقل من عام من انتهاء فترة رئاسته، أصيب بمرض عضال وافته المنية في 22 مايو 1994، تاركاً وراءه فراغاً أخلاقياً وحسناً لا ينقطع.
الإرث الذي لا يموت
ترك خليفة الصمادي إرثاً ثلاثياً يجعله من الصالحين الذين ينطبق عليهم حديث رسول الله ﷺ: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
1. الصدقة الجارية: المسجد العمري الكبير شاهد على صدقته الجارية.
2. العلم المنتفع به: سيرته العطرة وتاريخه المشرف في النزاهة والعدل أصبحا علماً ينتفع به ودرساً للأجيال في “أن العصبية والعشائرية لا ترضي الله ورسوله”.
3. الولد الصالح: ترك أبناءً تربوا على يده، فشربوا قيم المحبة والصدق والعدل، وهم اليوم يدعون له ويحملون اسمه بشرف.
رحم الله خليفة الصمادي، فقد كان مدرسة في الإنسانية والوظيفة العامة، ومثالاً نادراً على أن السلطة يمكن أن تكون أداة لتكريس العدل لا للامتياز، وأن مخافة الله هي أساس الإدارة الناجحة. إنه بحق، كما قيل عنه، “شخصية فريدة من نوعها مرت على مدينة عنجرة ومحافظة عجلون”.












