د. عبدالله محمد القضاه يكتب
يُعدّ التلفزيون الأردني أحد أهم رموز الدولة الوطنية وأذرعها الإعلامية في بناء الوعي العام وترسيخ الهوية الوطنية وتعزيز الثقة بمؤسسات الدولة. ومن الطبيعي أن تكون كفاءاته البشرية انعكاسًا لمعايير النزاهة والكفاءة والحوكمة الرشيدة التي تمثل جوهر خارطة تحديث القطاع العام. غير أن ما يطفو على السطح بين الحين والآخر من جدل حول التعيينات ؛ وخاصة الآخيرة منها في التلفزيون؛ يثير تساؤلات جدّية حول مدى توافق تلك الممارسات مع مبادئ النزاهة والشفافية التي تتبناها الدولة في رؤيتها للتحديث الإداري.
أبرز ملامح الخلل تكمن في غياب معايير الجدارة والشفافية في بعض التعيينات والإقصاءات داخل المؤسسة، سواء على مستوى الإدارات الوسطى أو في المستويات التنفيذية. ففي حالات عديدة، تغيب المسابقات التنافسية العلنية، وتُستبدل بمعايير شخصية أو توصيات غير مهنية، خلافا لماورد في التشريعات الناظمة لإدارة الموارد البشرية في الدولة، إضافة إلى تضارب التصريحات ، تارة مابين رئيس مجلس إدارة المؤسسة ومديرها العام؛ وأخرى مابين تصريحات مدير عام المؤسسة بأوقات متقاربة مما يؤدي إلى تشويه الصورة الذهنية لهذه المؤسسة لدى المواطن ، وتهميش الكفاءات الإعلامية القادرة على التجديد والإبداع ، وتولي مواقع القرار من قبل أشخاص لا يمتلكون الخبرة الفنية الكافية، وهذا حتما سيسهم في انتشار ثقافة الإحباط داخل المؤسسة وانخفاض دافعية الأداء.
إن هذه المظاهر لا تقتصر على التلفزيون وحده، بل تعكس نموذجًا مصغرًا لما قد يواجهه القطاع العام بأكمله إذا لم يتم ضبط منظومة التعيين على أسس موضوعية وشفافة.
وقد يتساءل البعض : ما هي إنعكاسات هذه الممارسات على مشروع تحديث القطاع العام؟ وبصراحة ، تمثل خارطة تحديث القطاع العام مشروعًا وطنيًا طموحًا يسعى إلى رفع كفاءة المؤسسات وتعزيز ثقة المواطن بها. إلا أن استمرار الممارسات التقليدية في التعيين داخل مؤسسة بحجم التلفزيون الأردني يشكل ثغرة في جسد الإصلاح الإداري، لأنه: يضعف صورة الدولة أمام الرأي العام، خصوصًا في مؤسسة إعلامية يفترض بها أن تكون نموذجًا للحوكمة، و يقوّض الجهود الرامية إلى ترسيخ ثقافة الأداء المبني على الكفاءة ، و يرسل رسالة سلبية إلى باقي المؤسسات بأن مبادئ التحديث لا تُطبّق بعدالة على الجميع.
التلفزيون الأردني، بوصفه منصة الدولة الإعلامية، هو جزء من منظومة القيادة بالقدوة؛ فإذا لم يكن نموذجًا في الشفافية، ستفقد حملات التحديث والمساءلة جزءًا من مصداقيتها لدى الجمهور.
والتساؤل الآخر هنا : ماهي جذور هذه المشكلة؟ بصفتي صاحب خبرة إدارية طويلة في التطوير المؤسسي ومتابع جيدا لجهود التحديث الإداري في المملكة؛ يمكنني القول : أن الخلل في جزء كبير منه يعود إلى تداخل الصلاحيات وضعف الحوكمة المؤسسية، وغياب توصيف وظيفي واضح للمواقع الوظيفية يربط الأداء بالمخرجات، إضافة إلى ضعف الرقابة الإدارية وغياب أنظمة تقييم حقيقية للمستوى المهني والإبداعي للعاملين، كما أن البعد الثقافي يلعب دورًا، إذ ما زالت بعض المؤسسات تنظر إلى الإعلام كمساحة ولاءات لا كمنظومة مهنية قائمة على الإبداع والإنتاج.
إن معالجة خلل التعيينات في التلفزيون الأردني ليست شأنًا إداريًا داخليًا فحسب، بل هي اختبار حقيقي لإرادة الدولة في تطبيق مبادئ تحديث القطاع العام على جميع المؤسسات بلا استثناء. فالعدالة في التعيين هي البوابة الأولى للإصلاح، والكفاءة هي رأس المال الحقيقي للدولة.
حين يصبح الإعلام الرسمي نموذجًا في الشفافية والإدارة الحديثة، حينها فقط ستتجذر الثقة في مشروع التحديث وستتحول الرؤية إلى واقع مؤسسي متين ومستدام.
وعليه ، لابد من تدخل حكومي فوري بوقف التعينات، وإجراء تحقيق شامل من ديوان المحاسبة وهيئة الخدمة والإدارة العامة، للتأكد من أن جميع التعينات، بمافيها شراء الخدمات، تعتمد على المسابقات التنافسية والمقابلات المهنية بإشراف رسمي يضمن تفعيل مبدأ الجدارة والإستحقاق وتكافؤ الفرص ضمن معايير فنية وإدارية معتمدة مسبقا، وهناك إجراءات مطلوب إتخاذها، على المدى المتوسط، تشمل مراجعة تشكيل وصلاحيات مجلس إدارة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وأن لايكون مدير عام المؤسسة عضوا في المجلس، لتحقيق الفصل مابين الرقابة والتنفيذ بما يتوائم مع متطلبات الحوكمة غير المتوفرة حاليا، وعلى المدى البعيد، فإنني إقترح تشكيل مجلس أعلى للإعلام والتوجيه الوطني، برئاسة الوزير المعني ، وبتمثيل حكومي والقطاع خاص ومؤسسات المجتمع المدني ليعكس التشاركية، ويتولى دراسة وتقديم السياسات المتعلقة بالإعلام والتوجيه الوطني ورفعها لمجلس الوزراء لإصدارها لتشكل مظلة وطنية تحدد بوصلة المؤسسات الرسمية والخاصة في تنفيذ هذه السياسة.












