ا.د نضال شريفين
في زمنٍ تسابقت فيه الأمم إلى رفع شأن جامعاتها، نرى بيننا من يرفعون أصواتهم لا للبناء، بل للهدم؛ من يسكب حبره لا لتشخيص الداء بعلم وأدب، بل لرسم صورة قاتمة لمؤسساتنا الأكاديمية، حتى ليظن الغريب أننا أمام أوكار وعصابات لا أمام صروح علميّة، حيث تلقى الكلمات على العلن، وتنشر للعالم، بلا أدلة دامغة ولا مسار قانوني، عن علم او دون علم بخطر الاشاعة، وكأن السمعة الأكاديمية حقل تجارب أو ورقة تُحرق لإشعال جدل عابر.
فكل صباح، تطالعنا بعض المنصّات بمقالات وصيحات عالية تدّعي الغيرة على الجامعات، بينما تنضح بأسوأ النعوت وأقبح التشبيهات؛ وكأننا نعلن للعالم أن جامعاتنا خرائب، وأن مؤسساتنا التعليمية بؤر فساد، مع أن الواقع أبعد ما يكون عن ذلك، فالحرية الأكاديمية وحرية التعبير حقّان مصونان، لكنهما لا يعنيان الانفلات اللفظي ولا التحريض بلا بيّنة، ولا تعطيان أحدًا رخصة لتشويه سمعة وطنه.
فقد أثبتت الوقائع، هنا وفي العالم، أن السمعة الأكاديمية قد تَهدم في أيام معدودات، مهما بلغت رسوخًا، فجامعة أكسفورد بروكس في بريطانيا، وجامعة مكغيل في كندا، وجامعة نوتردام أستراليا وجدت نفسها في عزلة أكاديمية مؤلمة بعد نشر اتهامات إعلامية تبيّن لا حقًا بطلانها، واضطرت إلى إنفاق سنوات وملايين لاستعادة مكانتها، وفي عالمنا العربي، ما زالت الذاكرة القريبة تحتفظ بقصص دامية لجامعات سقطت في في التشويه، فجامعة القاهرة وجامعة عين شمس تعرّضتا قبل أعوام لهجمات إعلامية ادّعت وجود فساد مالي وإداري، ليتضح بعد التحقيقات أنها شائعات مفبركة، لكنها كانت كفيلة بوقف منح بحثية وشراكات دولية، وفي الخليج، واجهت جامعة الكويت
حملة إلكترونية منسقة تتهمها بالتسييس وضعف المخرجات، فجمّد عدد من الشركاء الأكاديميين اتفاقياتهم حتى انجلت الحقيقة، أما في منطقتنا، فجامعات عربية فقدت فرص تمويل دولية بسبب مقالات مغرضة كتبها من يزعمون الانتماء لها، بينما كان أثرها أشد فتكًا من أي عجز مالي أو إداري.
وهنا تتجلى أهمية القوانين في حماية الجامعات وصون سمعتها؛ فمثلًا، قانون العقوبات الأردني يجرّم نشر أخبار كاذبة أو القدح والذم بحق الأفراد أو المؤسسات، ويترتب على المخالفين: الحبس، والغرامة المالية التي قد تتجاوز عشرة آلاف دينار، والتعويض المدني للجهة المتضررة، فهذه الإجراءات القانونية ليست مجرد نصوص، بل هي ضمانة لحماية المؤسسات الأكاديمية، وتأكيد على أن النقد البناء لا يترجم إلى هدم مؤسسي.
وإذا كان لدى أي أكاديمي أو موظف أدلة دامغة على فساد أو تجاوز، فالقوانين واضحة، والهيئات الرقابية قائمة، والنيابات العامة مفتوحة للأدلة لا للشائعات. أما الاكتفاء بالتصريحات النارية والاتهامات الجوفاء، فهو كمن يفتح أبواب مدينته للريح، فتقتلع ما بناه الأجداد، ويقف بعد ذلك يتباكى على الأنقاض.
وفي الدول التي نتباهى برسوخ تقاليدها الأكاديمية، لا يُتُرك الباب مفتوحًا لا تهامات بلا دليل، فالنقد هناك مسموح، بل مطلوب، لكنه يجري وفق ضوابط صارمة: لغة رصينة، حجج موثقة، ومسارات مؤسسية قبل أن يصل للرأي العام، ومن يخرج عن هذه الأصول، يواجه تبعات قانونية رادعة،
وفي الدول التي نتباهى برسوخ تقاليدها الأكاديمية، لا يُتُرك الباب مفتوحا لاتهامات بلا دليل؛ فالنقد هناك مسموح، بل مطلوب، لكنه يجري وفق ضوابط صارمة: لغة رصينة، حجج موثقة، ومسارات مؤسسية قبل أن يصل للرأي العام، ومن يخرج عن هذه الأصول، يواجه تبعات قانونية رادعة، فواجهة هذه الظاهرة تتطلب خطوات حاسمة: تشريع يميّز بين النقد الأكاديمي المحمي قانونيًا وبين الإساءة العلنية، وقنوات داخلية فاعلة تمكّن الأكاديميين من رفع الشكاوى بسرية، ومنصات حوارية داخل الجامعات تجمع الإدارة والهيئات التدريسية والطلاب لتبادل الرأي وتنفيس الاحتقان قبل أن يتحول إلى تشويه، وإعلام جامعي يقظ يردّ على الافتراءات فور صدورها، وثقافة ولاء مؤسسي تجعل الأكاديمي يرى في جامعته بيته الذي لا يطعن فيه أبدًا.
فجامعاتنا، مهما كان فيها من قصور، لا تستحق أن تُرمى في الوحل أو تختزل في صورة مظلمة، فالنقد الحقّ يبني، أما النقد الفج فهو سلاح المرتجلين، يطلقونه في كل اتجاه، فيصيب في النهاية الجبهة التي يفترض أن يحموها. فالحضارة لا تهدمها الحروب بقدر ما يهدمها سوء القول عن الذات، ومن لا يعي ذلك اليوم، سيقف غدًا على الأطلال متحسرًا على فرصة ضيّعها بلسانه قبل أن تضيع بيده.
ولعلنا هنا، ونحن نحذر وندعو، لا نبتغي غير صون كرامة جامعاتنا وحفظ إرثها، ونقف على أعتاب الحقيقة بكل وضوح وشفافية، نعتذر أولًا عن أي كلام سابق أَساء فهمه أو قُرئ على أنه نقد جارح، فنحن لا نستنكر النقد البنّاء، بل نرفض أن تتحول كلماتنا إلى سهام تجرح الجسد الأكاديمي للوطن، فلتكن هذه دعوة لكل قلب غيور وعقل رشيد:
حافظوا على الصروح، احموا السمعة، ولنعمل معًا على بناء جامعة لا يلطخها الوحل، ولا يطعنها اللسان، لأننا لا نعتذر عن حب الوطن، بل عن أي تقصير في حمايته بكلمة قبل أن تحميه الأفعال.