جان بو جدعون… حضور استثنائي في عالم الفن
هناك فنانون يتركون أثرهم بالصوت العالي، وآخرون يتركونه بالهدوء… بحضور يشبه الطمأنينة، وبسمة لا تحتاج إلى شرح. جان بو جدعون واحد من أولئك الذين يدخلون القلوب بلا استئذان، لأنهم يشبهون الناس، ويخاطبون وجدانهم ببساطة صادقة.
جان بو جدعون ليس مجرد ممثل أو كاتب، بل تجتمع فيه مواهب متعددة وكأنها التقت في شخص واحد، ما يمنحه تميّزًا استثنائيًا وعمقًا فنيًا نادرًا، وبصيرة تتجاوز الحدود التقليدية للفن. يمتلك القدرة على تقديم كل ما هو إنساني وكوميدي ودرامي بمهارة فائقة، ما يجعله شخصية فريدة في المشهد الفني اللبناني.
مسيرته الفنية بدأت منذ المراحل الدراسية، حين كان طالبًا في مدرسة الحكمة. أثناء حصة مادة المسرح والفنون، طلب الأستاذ أنطوان دانيال من الطلاب قراءة الشعر، فأشاروا على جان بو جدعون نظرًا لصوته المتميز وموهبته الفطرية في الشعر. وعند نهاية دراسته، طلبت منه الإدارة تحضير عمل مسرحي للمدرسة، فأبدع مسرحية مميزة أمام 1200 شخص بحضور الأب الرئيس المطران بولس مطر، ودام التصفيق لأكثر من عشر دقائق، مما أكد من البداية على موهبته الاستثنائية وقدرته على لفت الانتباه وإبهار الجمهور.
بعد هذه البدايات، انطلق جان بو جدعون في عالم المسرح الاحترافي، حيث شارك في أعمال بارزة مثل:
• مسرحية «أخ يا بلدنا» على مسرح البيكاديلي بإخراج جوزيف بو نصّار.
• مسرحية «كارامبول» مع المخرج روجيه عسّاف، وغيرها من الأعمال التي رسخت حضوره كممثل متقن ومتنوع.
على صعيد التلفزيون، برز بأدوار عديدة، منها:
• تلفيلم «فواتير قديمة» من إخراج جوزيف جبرائل، شاركه البطولة النجم الراحل فادي إبراهيم، وقد نال الأداء إعجاب الجمهور وزملائه لما تميز به من سلاسة وابتكار.
• شارك أيضًا مع الراحل أنطوان ريمي في مسلسل «أرسين لوبين»، ومع المخرج كميل سلامة في مسلسل «أوبة خالتي» بدور صاحب الباتيسري، مؤكدًا قدرة فائقة على تقديم الشخصيات الكوميدية والدرامية بأسلوب فريد.
أما ككاتب، فجان بو جدعون يحمل مشاريع استثنائية لم تتحقق بعد:
• فيلم سينمائي مدته ساعة ونصف، جمع فيه أبرز الكوميديين اللبنانيين، ينتظر المنتج المناسب لتنفيذه، ويعكس طموحه الكبير في توحيد الساحة الفنية وإظهار روح الكوميديا اللبنانية بأرقى صورة.
• سيتكوم مهم جدًا ورائع، ما زال قيد التحضير لإحدى المحطات التلفزيونية، ويظهر فيه جان بو جدعون كرائد في تقديم أعمال مبتكرة ومتجددة.
ولم يقتصر حضوره على الكبار فقط، بل امتدّ إلى الأطفال أيضًا. فقد كتب وأنتج وأخرج حوالي ستة أعمال للأطفال، اشترتها LBC وعُرضت على الشاشة، مثل: «مغامرات Clown»، «من مدينة لمدينة», «غابة مليانة قصص», «سامي واللعبة» وغيرها، مضيفًا بعدًا جديدًا لحضوره الفني، وكان من المقرر أن تستمر بعض هذه العروض، لكن توقف بعضها مؤقتًا بسبب تداعيات جائحة كورونا، وهو ما لم يخفّف من أثرها الإيجابي على الجمهور الصغير وعشاق الفن المبسّط والهادف.
كما أظهر جان بو جدعون مهارات موسيقية وغنائية استثنائية: فقد غنّى أكثر من 3000 أغنية في البرامج التلفزيونية، مستخدمًا نبرات صوت مختلفة، حتى استطاع التقاط أسلوب الراحل الكبير وديع الصافي، كما تعلّم عزف العود من الكتب دون تعليم رسمي.
لم يكن جان بو جدعون مجرّد ممثل أو مؤدّي شخصيات، على الرغم من أنّه قدّم، على مدى أكثر من ثلاثين عامًا، ما يزيد على أربعمئة شخصية لبنانية وعربية وأجنبية. شخصيات لم تكن تقليدًا عابرًا، بل بناءً دقيقًا يبدأ من الملامح ويمتد إلى الصوت والحركة والتفاصيل، حتى أنّه كان يتولّى بنفسه تنفيذ الماكياج الخاص بكل شخصية، كأنّه يعيد خلقها من جديد لا يكتفي بتقمّصها.
في الكوميديا، امتلك خفّة نادرة لا تقوم على المبالغة، بل على التوقيت الذكي واللمسة الإنسانية. ضحكته تأتي طبيعية، ونبرته قادرة على تحويل جملة عادية إلى مشهد مكتمل الروح. أمّا في الأدوار ذات الطابع الإنساني، فيكشف جانبًا آخر من موهبته: هدوء في التعبير، وعمق في الإحساس، وقدرة على ملامسة المشاهد من دون افتعال.
وبجانب التمثيل، يبرز جان بو جدعون ككاتب ومبدع في الإعلام. كتب وأعدّ برامج إذاعية مميّزة عبر إذاعة لبنان، شكّلت علامات في الذاكرة السمعية، من بينها برنامج «إبن البلد» الذي يقدّمه الفنان أحمد الزين، إضافة إلى برنامجه الخاص «من بعدك لمين»، حيث يحاور كبار المبدعين الراحلين من إعلاميين، رسّامين، شعراء وفنانين، في صيغة إنسانية مبتكرة، كأنّه يلتقيهم بعد الغياب ليمنحهم صوتًا جديدًا وحضورًا لا ينطفئ.
كما قدّم أعمالًا إذاعية أخرى حظيت بانتشار واسع، مثل «لوين يا مروان»، «أنيس وموريس»، و**«شو الأخبار يا حديدان؟»**، وهو البرنامج الذي حقّق نجاحًا لافتًا دفع أكثر من جهة إعلامية إلى طلب تحويله إلى عمل تلفزيوني. إلى جانب ذلك، أبدع في برامج مثل «تاكسي بلا أجرة»، مؤكّدًا حضوره كفنان متنوّع الأدوات والرؤى.
ومع انتقاله بقوّة إلى مساحة الكتابة، بدأ الجمهور يتعرّف إلى هذا الجانب العميق منه؛ فلم يعد فقط مجسّد الشخصيات، بل كاتبًا مؤثّرًا يلتقط الفكرة من نبض الشارع، ويعيد صياغتها بلغة قريبة من الناس. حتى عبر صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي، يقدّم محتوى يلامس اليوميّ والإنساني، يثير الاهتمام، ويفتح باب التأمّل، ويعكس وعيًا فنيًا واجتماعيًا صادقًا.
وفي المشهد الفني اللبناني، يواصل جان بو جدعون حضوره بهدوء الواثقين. لا يركض خلف الضوء، ولا يبدّل ملامحه ليرضي اللحظة، بل يبقى وفيًّا لأسلوبه وللفن الذي يؤمن به. تتجدّد أدواته، وتتنوّع مساحاته، لكن جوهره يبقى واحدًا: فنان يعرف كيف يلامس الناس من دون ضجيج، وكيف يقول الكثير بأبسط الطرق.
جان بو جدعون ليس حكاية تُروى فحسب، بل حضوره مستمرّ كهمس دافئ في ذاكرة الفن اللبناني. مسار يتقدّم بثبات، يحمل خبرة السنين، حيوية الأفكار، وأثرًا يبقى… صادقًا، دافئًا، وقريبًا من القلب .
الإعلامية مايا إبراهيم













