في قلب إربد، حاضرة الشمال، يقف بيت عمره أكثر من 120 عاما، ليس كأي بيت. إنه ديوان آل كريزم، واحد من بين أقدم المضافات في المدينة، والذي تحول بإرادة عائلية خالصة وجهود شخصية جبارة إلى متحف نابض بالحياة، أطلق عليه اسم “بيت إربد التراثي”. هذا المكان، العابق برائحة التاريخ، لا يزال يروي فصولا من حياة المدينة الاجتماعية والثقافية، ويستضيف عشرات الفعاليات التي تكرس الهوية الأردنية وتربط الحاضر بالماضي.
ورغم ما يحمله هذا المعلم من قيمة تاريخية وتراثية، فإن الخذلان الرسمي لا يزال حاضرا بشكل مؤلم. فكل ما تحقق من بقاء هذا المكان مفتوحا، وحيّا، ومستقبلا للضيوف، تم بفضل جهود فردية لعائلة كريزم، والتي تواصل الليل بالنهار للحفاظ على هذا الصرح التراثي دون دعم يُذكر من الجهات الرسمية، وخاصة السياحية منها بحسب القائمين على البيت.
ديوان كريزم لم يكن فقط مضافة، بل أصبح مركزا ثقافيا وسياحيا، يرفد المشهد المحلي بفعاليات متنوعة ويستقبل زوارا من داخل الأردن وخارجه. ومع ذلك، فالغريب – والمحزن في آن – أن هذا المكان لا يزال خارج الاهتمام الحكومي الجاد، ولم يدرج حتى الآن ضمن المبادرات الرسمية الكبرى المعنية بحماية البيوت التراثية، على الرغم من مطالبات العائلة المتكررة وإثباتهم لفاعلية المكان وجدواه الثقافية والسياحية.
وفي المقابل، جاء قرار مجلس الوزراء الأخير، قبل أيام، في خطوة تحسب له، بالموافقة على إدراج عدد من المباني التراثية في عمّان والبلقاء ومأدبا ضمن سجل التراث العمراني والحضري، بناءً على قانون حماية التراث وتوصيات اللجنة الوطنية المختصة. وهو قرار مهم، يشكل نقطة تحول في مسار حماية الموروث المعماري الأردني.
ورغم التقدير لهذه الخطوة غير المسبوقة، إلا أن العتب كبير على الحكومة لأنها لم تشمل حتى الآن محافظة إربد، التي تحتضن عشرات البيوت والمضافات ذات القيمة التاريخية العالية، ومنها ديوان آل كريزم، الذي يمثل نموذجا حيا لما يمكن أن يتحقق حين تقترن الإرادة بالإيمان بالمكان.
إن ما قامت به عائلة كريزم في بيتهم التراثي لا يختصر بكلمة ترميم أو استضافة، بل هو مشروع وطني متكامل، قائم على حب المدينة، والحرص على نقل تراثها للأجيال القادمة. ورغم محاولات بسيطة من بلدية إربد لوضع البيت على الخارطة السياحية، إلا أنَّ هذا لا يرتقي إلى مستوى الرعاية المؤسسية اللازمة، إذ بقيت تلك المحاولات “على خجل” كما وصفها القائمين على الديوان.
مؤسف أن نرى هذا الإهمال في وقت لا تتوقف فيه عائلة كريزم عن فتح أبواب مضافتها يوميا، وتمويل الفعاليات والانشطة من جيوبهم وتبرعات أبناء العائلة، من دون أن يلقوا أي استجابة تذكر، حتى من برامج حكومية مثل “أردننا جنّة” التي لم تدرج البيت في أي من مساراتها السياحية، ولا حتى تم تزويد المنطقة بإشارات إرشادية تدلّ الزوار عليه الا بمناطق محدودة.
بيت آل كريزم ليس الوحيد، فإربد مليئة بالمضافات والبيوت والمعالم التراثية العريقة التي كانت ولا زالت شاهدا على نهضة الأردن وبناء هويته الوطنية، منها مضافات ارشيدات، طبيشات، الدلقموني، خريس، عبنده، التل، الشرايري، النابلسي، البطاينة، بيت جمعة، ابو رجيع، عرار، جودة، النصراوي، الربضي، خان حدو، مدرسة الصباح، السور البيزنطي وغيرها من المعالم التي لا يمكن حصرها هنا بهذا المقال، هذه البيوت ليست حجارة وصورا فقط، بل هي ذاكرة حيّة، ومنصات تفاعلية، تنبض بالحكايات وتستحق أن تدرج ضمن أولويات الحكومة السياحية والثقافية، لا أن تترك لمواجهة الزمن وحدها.
نأمل بأن تمتد يد الحكومة، التي بدأت بخطوة إيجابية في ثلاث محافظات، لتصل إلى إربد والكرك وجرش والمفرق وعجلون والطفيلة ومعان والعقبة. فهذه البيوت والمضافات لم تكن يوما أماكن استقبال فقط، بل كانت وما زالت رموزا وطنية، ومراكز ثقافية، ومرايا لهوية هذا الوطن، وتستحق دعما رسميا حقيقيا، يعيد لها الاعتبار، ويجعلها جزءا فاعلا من المشهد السياحي والثقافي الأردني.