“الصريح مواسم الفرح”
بقلم :الدكتور صالح إبراهيم العجلوني .
بمناسبة استقلال الارض والإنسان الأردني وفي تاج الأعياد الوطنية ، نتصفح بأجندات القرى والأرياف الأردنية ، وتطوف بي الذكريات لاقلب صفحة وطنية في فضاءات الصريح التي تقع على خاصرة الوطن الشمالي ،وستأخذنا الذكريات إلى الماضي الذي لا يشيخ،إلى “الصريح” حين كانت فردوسًا نقيًا تحت سماء الله لتصبح صحن اربد الأخضر ، ماذا لو مرّ بجانبنا قطارٌ يشقّ الزمن إلى الوراء؟ماذا لو صعدناه معًا، بلا تذكرة، بلا وداع،وتركنا الحنين يقودنا كالأطفال،
نحو فسيفساء الذكريات؟
تخيّل أن يطلّ علينا قطار العمر،مزخرفًا بورد الأقحوان،مبللًا بندى الفجر،يشقّ طريقه بين سنابل القمح والشعير،
بين الكرسنة والعدس والبطيخ،وينادينا:
“تعالوا إلى حيث النقاء الأول،حيث الأرواح ما زالت تتصافح قبل الأيدي،وحيث القلوب كالفراشات،
تلهو في بساتين الربيع”.
هناك،كانت ضحكاتنا تطير مع نسيم الصباح،
كأغاني العصافير على أغصان الحنين،وكانت الحياة طاهرة،كندى الورد على خدود البنفسج.
سنعود إلى مدرستنا الأولى،نلثم جدرانها كما يُلثم جبين الوطن،نلعب في ساحةالطين،وبواطيس الماء،كما يلعب المطر بالعشب العطشان.
نمشي في شوارعنا القديمة،حيث الأرواح الطيبة تتصافح من بعيد،
وحيث الكبار سنديانٌ واقف،والصغار زهراتُ ياسمين،يركضون خلف الفرح،بأقدامٍ حافيةٍ من الهمّ.
وفي بيوتنا العتيقة،
تفوح رائحة المجدّرة والمحمر،وقلاية البندورة والخبز الساخن،كأنّ أمّي ما زالت تعجن الحياة بيديها،وتطهو لنا السعادة في قدور النحاس.
دعنا نتوقف في محطة الحصاد،حيث يهتف الفلّاح:
“منجلي يا منجلاه،
ما جلاه إلا بعلبة، ياريت العلبة عزاه،منجلي يا أبو الخراخش،ياللي بالزرع طافش،ويا حمرا يا لواحة، خدودك مثل التفاحة،
ويا ربي الغيث، يا ربي، نسقي زريعنا الغربي ونزور العنقي ونقول يا بيت الله زايرينك رشق المطر بصير فيك”.
ثمّ يتوقف بنا القطار في محطة الأعراس،فنسمع زغاريد النسوة،كأنها تعانق السنابل،وترى القلوب تخفق كأجنحة الفراش،والكلّ يرقص على إيقاع المحبة،بلهفة العائد إلى حضن جدّته،
وحنين الفلاح لأرضه بعد موسم الجفاف.
وحده الحاضر يظل صامتًا،باهت الألوان،
كلوحةٍ بلا روح،لأنّ أرواحنا ما زالت هناك:في حضن الأم،في ظلّ الجدة،
في نظرات الأب،
في ألعاب الطفولة والشيخوخة:لعب المنقلة في الشوارع وعلى المنطار، والصينية في الشتاء،كرة القدم على البيادر،سيارات الأسلاك،
السبع حجار، اصفر يادا
الحجلة، القالات،كمستير،
الكيزة، حذر مذر، حامي بارد…ونتشبّث بالأيادي التي ربتت على أكتافنا،
وعلّمتنا الحياء،
قبل أن تعلّمنا الأبجدية.
وفي نهاية الرحلة…
ينظر كلٌّ منا من نافذته،
ويبتسم،لأننا نعرف أن “الصريح” لم تكن يومًا مجرّد مدينة،
بل كانت الأمّ، والدار، والدفء،وكانت الحياة،
حين كانت الحياة… أجمل.
ونعرف أيضًا،أن أجمل ما في الماضي…أننا عشنا فيه الحب،ومع من نحب.
عاش الأردن حرا عزيزا بقيادة الحكيمة الملهمة