في زمنٍ تتقلب فيه المواقف كما تتبدل الرياح، وتضطرب فيه الولاءات بتقلّب المصالح، تبقى بعض الأسماء محفورة في وجدان الأوطان لا لأنها تقلدت المناصب وتبوأت المواقع، بل لأنها اختارت منذ البدء أن تكون في صميم الفكرة، في جوهر الانتماء، في لبّ التضحية. ومن بين هذه القمم التي أنجبتها تربة الأردن الطاهرة، يسطع اسم الشهيد هزاع المجالي، لا كسياسي عابر في دفتر الوظيفة العامة، بل كرجل دولة صيغ من معدن الوفاء، وصقلته التجارب، ومنحته الأيام هيبةً قلّ أن تُمنح إلا لرجال لا تنحني قاماتهم أمام العواصف، ولا يبدّلون تبديلا.
وإننا، وإن لم نكن بحاجة إلى مناسبةٍ مخصوصةٍ للكتابة عن رموز الأردن الشامخة، فإن إطلاق موقع إلكتروني خاص بالشهيد هزاع المجالي، يضم مذكراته، وخطاباته، وصوره، وتفاصيل محطات حياته السياسية والعائلية، لهو حدثٌ لا يُقرأ بوصفه رقميًا تقنيًا فحسب، بل كوثيقة وطنية تفتح صفحات الذاكرة لتُعيد للأجيال الجديدة قراءة أحد أنبل رجالات الوطن، وأصدقهم مسيرةً وموقفًا.
وأنا أتصفح أروقة ذلك الموقع، امتلأت رئتاي بأوكسجين الفخر، واختلطت في أعماقي مشاعر الانبهار والاعتزاز. لم تكن مذكرات الشهيد نصوصًا عادية، بل كانت نبضًا ناطقًا بالصدق، وسيرةً تفيض بالحكمة والموقف. لم أترك كلمةً تفلت مني، بل كنت أعيد القراءة مرارًا، كأنني أستمع لصوت رجل صادقٍ يروي سيرته من على ضفاف الخلود، لا طلبًا لثناء، بل وفاءً للأردن الذي أفنى فيه عمره، وقدم لأجله روحه على يد زمرةٍ غادرةٍ حاقدة، أرادت أن تطفئ شعلة العطاء، لكن دماءه الزكية كانت مدادًا جديدًا للهوية الأردنية التي عمّدها بصدق الموقف ونبل التضحية.
في مذكراته، يكتب هزاع المجالي كما يتحدث الأردنيّ النبيل: بعفويةٍ صادقة، وأسلوبٍ لا يزيّنه تكلّف، ولا تجرّده البساطة من عمق المعنى. من أول سطر، تشعر أنك أمام رجل “مبدأي”، لا يساوم على الأردن، ولا يتردد في الانحياز الكامل للعرش الهاشمي، ولا يقف على الرصيف إذا ما دعاه الوطن إلى ساحة الفعل. نذر نفسه، وعلمه، وخبرته، وأيامه، خدمةً للأردن، وسندًا لأبنائه، فصار من الوفاء علينا – نحن نخبًا ومثقفين وإعلاميين – أن نُفرد له من الكتابة ما يليق به، لا أن نختصر حضوره بخبرٍ يتيم يُبث سنويًا في ذكرى استشهاده.
لم تُولد عظمة هزاع المجالي في كواليس السياسة، ولا بين جدران المكاتب، بل نمت وترعرعت في حواري القرى، ومضارب العشائر، وأفنية البيوت الأردنية الأصيلة. في “ماعين” و”الكرك”، وفي مجالس الشيوخ، وبين حكم الجدّات وحكايات الليل، تشرب معاني الحمية، والكرامة، والرجولة التي لا تعرف الزيف.
لقد كتب مذكراته قبل أكثر من ستة عقود، في زمن لم يكن يعرف “السوشيال ميديا”، ولا بودكاستات الصوت العالي، ولا الفضائيات المتعطشة للإثارة، ولا المنصات التي يتصنّع فيها بعض السياسيين المواقف لغرض التصفيق والضوء. كتبها لا ليتباهى، بل ليسجّل للتاريخ شهادته، ويمضي في صمت، كعادة الكبار الذين لا ينتظرون شكراً من أحد، ولا مكافأةً على وطنيةٍ فطروا عليها. كانت دماؤه التي سُفكت على ثرى عمان الطاهر هي الشكر الوحيد الذي ارتضاه، والوسام الذي علقه على جبين كركيّته النبيلة.
نعم، الحديث عن هزاع المجالي ليس استذكارًا لرجلٍ راحل، بل استدعاء لحالة وطنية أصيلة، لرجلٍ لم تنل منه السلطة، ولم تغيّره المراتب، بل ظلّ وفيًا لطفولته الأولى، وفياً لمبادئه التي تربّى عليها بين جنبات البادية وكنف الأسرة الأردنية العريقة.
إن قراءة مذكراته ليست مجرد عبورٍ في سيرة رجل، بل استلهام لمسيرة وطن، وتشريحٌ حيٌّ للقيم التي قامت عليها الدولة الأردنية الحديثة: الصدق، الشرف، المسؤولية، الإخلاص، والولاء بلا منّة. فمن يقرأ هزاع، يدرك أن الأردن لم يُبنَ على الصدفة، بل على أكتاف رجالٍ آمنوا به، وعاهدوه، وماتوا لأجله، ليبقى الوطن، وتبقى الراية، ويظل العرش الهاشمي عنوان الشرعية والانتماء.
والشكر كل الشكر لعائلة الشهيد الكريمة، التي فتحت لنا أبواب الذاكرة الوطنية من خلال هذه المبادرة الخلّاقة، وأتاحت لنا هذا الكم النفيس من المصادر الموثقة، لتعيد تعريفنا – في ذكرى استقلالنا التاسعة والسبعين – برجالات الوطن الذين لم يبدّلوا، ولم يهادنوا، ولم يضعفوا. إن ما قامت به أسرته هو إسهامٌ وطنيٌّ نبيلٌ، يرقى إلى أن يكون مشروعاً ثقافياً مستداماً، يوثق سيرة رجلٍ كان وسيظل فصلاً لا يُغلق في حكاية الأردن الحديث.
فـالشهيد هزاع المجالي، لم يكن مجرد صفحةٍ من كتاب، بل كان ولا يزال فصلاً دائمًا في كتاب الوطن، تُقرأ كلماته حين نبحث عن المعنى، وتُستلهم مواقفه حين نحتاج إلى البوصلة. رحم الله الشهيد هزاع المجالي ورحم شهداء الوطن مدنيين وعسكريين.. اللهم امين ..اللهم امين.