د. اسماعيل احمد ملحم يكتب
بين عواصف الإقليم وسكون التخطيط
تشهد مدينة البترا، لؤلؤة السياحة الأردنية، أزمة حقيقية لا يمكن إنكارها. فقد أُغلقت عشرات الفنادق في ضوء تراجع آعداد السياح الأجانب ، وتراجعت الحركة التجارية والخدمية في واحدة من أهم المدن التراثية العالمية، وسط حالة من الجمود والترقب. وقد سارع البعض إلى تحميل الظروف الإقليمية وحدها مسؤولية ما يحدث، في ظل تداعيات الحرب في غزة، والتوتر المتصاعد بين إيران وإسرائيل، وغيرها من الاضطرابات في المنطقة.
ولكن، هل يكفي هذا التفسير؟ وهل السياحة تتوقف تلقائيًا في كل دولة يحيط بها التوتر؟
الحقيقة أن الواقع الإقليمي ليس العامل الوحيد – وإن كان له أثر – فهناك دول واجهت حروبًا وصراعات حقيقية على أراضيها، مثل أوكرانيا، وروسيا، وحتى الهند وباكستان في أوقات توترهما و غيرها من الدول، لكنها استطاعت بوسائل مختلفة أن تحافظ على نبض السياحة ولو بشكل جزئي، من خلال خطط طوارئ مرنة، وحملات ترويج ذكية، وإدارة مِحن بخبرة لا تكتفي بالتصريحات بل تنطلق من الميدان.
في المقابل، يبدو أن المشكلة السياحية – وتحديدًا في مدينة البترا – مركبة، وتتجاوز العوامل الخارجية. فالتراجع الحاصل يطرح تساؤلات جدية حول مدى جهوزية الإدارات السياحية لمواجهة الأزمات، ومدى عمق الفهم لطبيعة هذا القطاع الحيوي، الذي لا يحتمل المعالجات الموسمية أو الردود الانفعالية.
لقد غابت الخطط الاستراتيجية الشاملة بعيدة المدى ، كما غابت خطط الطوارئ المرنة التي تستبق الأزمات وتتعامل معها بكفاءة. وبدلًا من التمركز حول المبادرات العملية، نجد أحيانًا تركيزًا مفرطًا على المؤتمرات والمشاركات الإعلامية و المبادرات الإحتفالية التي تستهلك الجهد والموارد دون أثر ملموس على الأرض.
كما أن الإدارات الميدانية شبه غائبة أو ضعيفة التمثيل في مراكز القرار، وهناك حديث متكرر في الأوساط السياحية عن تغييب للكفاءات الفنية المتخصصة، لصالح إدارات قد تكون متمكنة إعلاميًا أو محسوبة على شبكات العلاقات، لكن لا تحمل الخبرة الكافية في تفاصيل السياحة كمنظومة اقتصادية – ثقافية – خدمية مترابطة.
الحلول؟ ممكنة وواقعية، وتشمل ما يلي:
1-إعادة هيكلة الإدارة السياحية العليا لتكون مبنية على الكفاءة لا على المجاملة، وإتاحة الفرصة أمام أبناء القطاع الحقيقيين، ممن يمتلكون خبرة ميدانية وفهمًا استراتيجيًا متراكمًا.
2-وضع خطط طوارئ سياحية حقيقية تتضمن أدوات مرنة لاستيعاب التراجع في أعداد السياح الأجانب، واستهداف بدائل من الأسواق القريبة أو السياحة المحلية.
3-تفعيل الحوافز للقطاع الخاص في المناطق المتأثرة مثل البترا، عبر تخفيف الضرائب، وتقديم تسهيلات مالية مؤقتة، بما يُمكن الفنادق والمرافق من الصمود.
4-إطلاق حملات ترويج ذكية وسريعة توظف الإعلام الرقمي، والقصص الإنسانية، وتجربة السائح، لإبراز صورة الأردن الآمن والمضياف رغم ما يدور حوله من توتر.
5-تعزيز التكامل بين المحافظات، وعدم الاكتفاء بمحور عمان – البترا، بل ربط البترا ببرامج سياحية شاملة تشمل وادي رم، الكرك، معان، والبادية الجنوبية، لدفع الزوار للبقاء فترة أطول.
6-إشراك المجتمعات المحلية في الحل، من خلال تدريب وتأهيل الشباب، وتحفيز الاستثمار السياحي الصغير، فالسياحة لا تُبنى فقط من أعلى إلى أسفل.
إن إنقاذ السياحة في البترا لا يحتمل مزيدًا من التأجيل، ولا يحتاج إلى خطابات إنشائية، بل إلى إرادة إصلاح حقيقية، تعيد الاعتبار للميدان، وتُعيد القرار إلى من يعرف تفاصيله. فكما أن البترا صمدت آلاف السنين، فهي قادرة اليوم على النهوض من جديد… بشرط أن نضع الكفاءات في مكانها، وأن نُخرج القطاع من دائرة التجميل الإعلامي إلى دائرة الفعل الميداني.