كتب: الصحفي ليث الفراية
في أقصى الجنوب الأردني، هناك حيث تمتد الأرض في خشوعٍ بين هضاب مادبا، وبين أنفاس التاريخ المتجسد في مكاور، ولد فتى لم يكن يشبه محيطه. لا لأنه رفضه، بل لأنه رأى فيه بداية، لا نهاية. لم يكن يعرف الدكتور محمد مسلم قطيش أبو قاعود أن الطريق التي بدأت من تراب القرية ستُفضي به إلى أبراج المال والأعمال في أميركا، لكنه كان يؤمن بشيء واحد: أن القلب الذي ينبض بالإيمان لا يحتاج إلى خارطة.
في مكاور، لم يكن الطموح ترفًا. بل كان تمرينًا يوميًا على الصبر. هناك تعلّم أن القلوب الكبيرة تُصنع من المعاناة، وأن الرجال لا يُقاسون بطول قامَتهم، بل بمدى صدقهم مع أنفسهم. نشأ في كنف عشيرة بني حميد، وفي عمق ذلك المجتمع القبلي النبيل، حيث تُقاس الرجولة بالشجاعة والمروءة والانتماء، لا بالشهرة أو المال.
دخل المدرسة كما يدخل الفلاح إلى الحقل… يعرف أن التعب هو البداية، لكن الثمار لا تخون. أنهى دراسته الثانوية، ثم انتقل إلى جامعة اليرموك، ليدرس اللغة الإنجليزية. لكن الحقيقة أن ما درسه هناك لم يكن لغةً فقط، بل هوية، وحلمًا، ومساحة للجدل، والتفكير، والاحتجاج الجميل.
كان محمد طالبًا يزعج الراكد، ويوقظ الساكن. شغل عضوية اتحاد الطلبة، وترأس نادي الفكر والحوار، وخاض في شؤون الأمة كما لو كان يُعدّ نفسه لدور لم يكن قد كُتب بعد. منذ بداية التسعينيات، وعودة الحياة البرلمانية، كان صوته حاضرًا، وموقفه حاسمًا، وروحه طافحة بالأسئلة. لم يكن يومًا طالبًا عابرًا، بل حالة فكرية تنمو.
لكنه، رغم كل هذا، لم يكن من أولئك الذين يستسلمون لمقعد التدريس، أو وظيفة ثابتة. كان رجلًا خلقته الفكرة، وغذّته التجربة، وفتّح وعيه الاغتراب. بعد تخرجه، خاض غمار التدريس، لكن قلبه كان يبحث عن الأفق… فسافر إلى ماليزيا، ثم بروناي، حيث درس الماجستير في الدراسات الدينية المقارنة. ثم جاءت اللحظة الحاسمة: الهجرة إلى الولايات المتحدة.
حين وصل أميركا، لم تكن الحياة مفروشة بالأحلام. بل كانت معارك يومية، بين اللغة والهوية، بين الفقر والمستقبل، بين الشك واليقين. التحق بجامعة إنديانا، لكنه اضطر لترك دراسته بسبب الضائقة المالية. كثيرون توقفوا هناك… لكنه كان من القلائل الذين قرروا أن “الظروف” ليست قدرًا، بل اختبارًا.
في سينسيناتي، حيث لا أحد يعرفك، ولا أحد ينتظرك، أعاد محمد تشكيل نفسه من الصفر. عمل ودرس، قاتل بصمت، وانتزع الماجستير في تعليم اللغة الإنجليزية من جامعة Xavier. لم تكن الشهادة هدفًا، بل بداية جديدة في فهم العالم الأمريكي… لغته، وأدواته، وأسراره.
أسس أول مشاريعه الصغيرة، ثم انتقل إلى ولاية يوتا، وهناك بدأت تحولات كبرى. امتلك أكثر من 24 موقعًا تجاريًا متخصصًا في القهوة الأوروبية والمأكولات الفرنسية. وفي عام 2003، أنشأ شركته في مجال الاستشارات الضريبية وبيع الشركات، والتي تحولت لاحقًا إلى كيان اقتصادي واسع، يتعامل مع استثمارات بملايين الدولارات، ويقدم خدماته في عدة ولايات، في قطاعات حيوية ومعقدة.
ما فعله محمد أبو قاعود لم يكن مجرد نجاح تجاري. لقد اخترق النظام الاقتصادي الأمريكي دون أن يتخلى عن اسمه، أو هويته، أو لهجته الأردنية التي ما زالت تخرج من فمه بلكنة الجنوب.
أكمل مشواره الأكاديمي فنال شهادة MBA من جامعة فينيكس، ثم حصل على زمالة المحاسبين الأمريكيين عام 2009، وأخيرًا توّج مسيرته بدكتوراه في القيادة والإدارة من جامعة ريجنت بولاية فرجينيا بيتش. لم يكن يسعى وراء الشهادات، بل كان يؤمن أن الإنسان الحقيقي لا يتوقف عن التعلّم.
ومع مرور السنوات، تحوّل محمد إلى رجل أعمال ذكي، مخطط، حاد الذهن، دقيق القرار. امتدت استثماراته إلى قطاعات النفط والكيماويات، وتأجير السيارات، والأبحاث الطبية، وإدارة العطاءات الحكومية، وحتى شراكات في مصانع السلاح في ولاية أيداهو. وفي جزر الـ Virgin Islands، كان اسمه ضمن الكبار.
رغم كل هذا، لم يتغيّر جوهره. ظلّ وفياً لقريته، لعشيرته، لوطنه. ساعد مئات الشباب العرب على دخول السوق الأمريكية. دعم، درّب، فتح أبوابًا، وشارك كشاهد خبير في أكثر من 22 قضية محاسبية جنائية. هو رجل جمع بين الاقتصاد والقانون، بين الفهم والإدارة، بين السوق والضمير.
اليوم، يعمل الدكتور محمد على مشروع ضخم في ولاية يوتا يشمل بناء أكثر من 175 وحدة سكنية ومساحات صناعية تتجاوز 500,000 قدم مربع. لكنه لا يبني طوبًا فقط، بل يبني مستقبلًا لأجيال عربية في المهجر، ويكتب سردية مختلفة عن العربي المغترب: ليس الضعيف، ولا المهمش، بل الفاعل والمستقل وصاحب القرار.
في زمنٍ تتشابه فيه القصص، وتُعاد فيه حكايات الاغتراب على نمط واحد، تأتي قصة محمد مسلم أبو قاعود لتكسر القاعدة. إنه ليس مجرد رجل أعمال، بل نموذج إنساني نادر. ابن مكاور الذي سار في طريق الألف ميل دون أن يلتفت خلفه، إلا حين يمدّ يده لمن بعده.
نجاحه لم يكن صاخبًا، لكنه كان حقيقيًا. عابرًا للقارات، متجاوزًا كل الحواجز. رجل قرر أن يكون الحلم أكبر من اللغة، وأعمق من الجغرافيا، وأصدق من الشعارات.