الأردن… وطن يولد كل يوم من جديد
بقلم: د. ناديا محمد نصير
أستاذه جامعية وأخصائيه علاج نفسي
حين يتأمل الإنسان في مسيرة وطنه، لا يرى فقط خرائط وحدودًا، بل يلمس نبض الأرض، ويشمّ رائحة الكفاح، ويسمع أصوات الذين حلموا، فزرعوا، فحصدنا معهم استقلالًا وكرامة.
الخامس والعشرون من أيار ليس مجرد تاريخ في الروزنامة، بل هو نداء داخلي يتردد في كل أردني وأردنية: هذا الوطن الذي نعيش فيه، يستحق أن نعيش له.
في علم النفس الجمعي، تُبنى الأمم العظيمة على ثلاث ركائز: الذاكرة، والهوية، والخيال الجمعي. والجميل في قصة الأردن أن الاستقلال لم يكن مجرد انفصال عن استعمار، بل بناء لهوية مستقلة، متوازنة، وعميقة، لا تُلغى بالتقلبات، ولا تُختزل بشعارات.
استقلال الأردن كان إعلان ولادة دولة عربية تحمل ميراثًا هاشميًا شريفًا، وتتبنّى مشروعًا وطنيًا عابرًا للضيق الجغرافي. فمنذ لحظة الاستقلال، لم يكن الهدف مجرد تحرير، بل بناء دولة تليق بكرامة الإنسان، وتحترم العقل، وتؤمن بالتدرج لا بالانقلاب.
لقد تأسس الأردن في قلب الجراح العربية، لكنه لم يكن يومًا بلدًا يائسًا. بل كان بلد الممكن في زمن المستحيل.
هذا الوطن الصغير في المساحة، الكبير في المعنى، لم يعتمد على وفرة الموارد، بل على وفرة الوعي.
والوعي هو أثمن ما يمتلكه شعب.
إن من أهم ما يميز استقلالنا، هو تلك العلاقة الفريدة بين القيادة والشعب، القائمة على الحوار لا الفرض، وعلى الثقة لا الخوف.
لقد فهم الهاشميون مبكرًا أن شرعية الحكم لا تأتي من القصور بل من القلوب.
وأن بناء الدولة لا يبدأ بالقوانين بل يبدأ بالعدالة، ثم التعليم، ثم تكافؤ الفرص.
علم النفس التنموي يعلّمنا أن الإنسان لا ينضج دفعة واحدة، بل عبر مراحل من التجربة والخطأ. وكذلك هي الأوطان.
والأردن، بعد أكثر من سبعين عامًا من الاستقلال، لا يزال في طور النضوج المستمر.
يُخطئ أحيانًا، يصيب كثيرًا، لكنه لا يتوقف أبدًا عن المحاولة.
في زمن طغت فيه الإحباطات الإقليمية، بقي الأردن كجزيرة من العقل، ومنبر من الاعتدال.
ليس لأنه الأقوى عسكريًا، بل لأنه الأكثر اتزانًا.
ليس لأنه الأغنى اقتصاديًا، بل لأنه الأغنى إنسانيًا.
في يوم الاستقلال، علينا أن نتوقف قليلًا عن الاحتفال بالشكل، ونعود إلى الجوهر.
أن نسأل أنفسنا:
هل نحمل في سلوكنا اليومي قيم الاستقلال؟
هل نحترم الوطن كما نحبه؟
هل نمارس استقلالنا من الفساد، والتبعية، والكسل؟
هل نؤمن أن الوطن ليس من يُعطينا، بل من نُعطيه؟
إن الاستقلال ليس لحظة، بل مسؤولية مستمرة.
وكل فرد في هذا الوطن هو شريك في الحفاظ على ما بُني، وتحقيق ما لم يُنجز بعد.
رسالة ولاء واعتزاز
في هذا المقام، لا بد أن نقف بإجلال أمام العائلة الهاشمية، التي جعلت من الحكم رسالة لا سلطة، ومن القيادة أفقًا لا عرشًا.
من الملك المؤسس عبدالله الأول، الذي حلم بدولة تحفظ كرامة العرب، إلى الملك الراحل الحسين بن طلال، الذي غرس قيم العزة فينا، وصولًا إلى جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الذي لا يزال يمضي على ذات الدرب رغم التحديات المتراكبة، وبإصرار لا يلين.
وإلى الشعب الأردني العظيم، نقول:
أنتم جدار هذا الوطن، وضميره، وسيفه.
أنتم من كتب قصة الأردن لا بالحبر، بل بالعرق، والصبر، والتكاتف.
كل معلمة تعطي من قلبها، كل جندي يسهر بلا كلل، كل طبيب يداوي بضمير، كل شاب يبحث عن فرصة بشرف…
هؤلاء هم صُنّاع الاستقلال الحقيقي.
فلنُكمل المسيرة.
لنُحافظ على ما تم بناؤه.
ولنحلم أكثر، ونعمل أكثر، ونؤمن أكثر.
كل عام والأردن بخير… وطن لا يشبه سواه، وشعب لا يقبل إلا العز.