بقلم الدكتورة ناديا محمد نصير
اليوم… أُطفئ شمعة جديدة، لكنها ليست كأي شمعة. اليوم، أُكمل الأربعين. العمر الذي يقولون عنه “منتصف الطريق”، لكنه بالنسبة لي… بداية حنين لا نهاية له. أربعون عامًا مرّوا، كنت أظن أنني عرفتُ فيهم كل شيء: الحب، الألم، النضج، النجاح، الخذلان، الأمل… لكنني اليوم، في عيد ميلادي الأربعين، أكتشف أنني لا أعرف شيئًا عن الفراغ. الفراغ الذي يخلّفه غياب الأم… وغياب الأب. هذا أول عيد ميلاد يمر عليّ دون أمي. أول صباح لا يُشرق بدعائها، ولا يبدأ بضحكتها، ولا يُختم بلمستها على رأسي وهي تقول: “كبرتي يا بنتي… بس بعدك بعيوني صغيرة.” أمي التي كانت رغم تعبها، رغم جلطة دماغية أفقدتها القدرة على المشي، ورغم أنها كانت طريحة السرير… أصرت السنة الماضية أن تُشاركنا اللحظة. جمعتنا، ضحكت، قطعت الكعكة بيدين مرتجفتين. أصرّت أن تلبس شيئًا جميلاً، أن تضع العطر الذي تحبّه، أن تكون “أمّي” كما عهدتها دومًا… حتى لو كان جسدها يُعاندها. كانت فرحتها لا توصف… قالت لي، وعيونها تلمع رغم الألم: “أنا مبسوطة فيكي… إنتِ رافعِة راسي، فخورة فيكِ… نجحتِ يا ماما، كبرتي ياصغيرتي.” كانت تراني كما لا يراني أحد… تؤمن بي حتى وأنا متعبة. وتحضنني بصمت، وكأنها تعرف أن الوقت لا يُمهلنا طويلًا. رحلت أمي، وتركت كل شيء ينقص. البيت ناقص. العيد ناقص. وأنا… ناقصة بدونها. لم تكن تعرف، ولم أكن أعرف… أن ذاك اليوم سيكون آخر عيد ميلاد يجمعنا. واليوم؟ كل شيء منقوص… حتى نفسي، أشعر أن جزءًا منها بقي هناك… لكن هذا الغياب لم يبدأ معها فقط. بل قبله، بخمس سنوات… كان الغياب الأول: أبي. أبي الذي أخذ منه السرطان كل شيء، إلّا كرامته. أبي الذي كان يحارب الألم بابتسامة صامدة، ويخفي أوجاعه خلف عبارة واحدة يرددها دائمًا: “بنتي الدكتورة… حبيبة أبوها، ودلوعه البيت.” كان يراني نجاحه. كان يفتخر بي كأنني إنجازه الأجمل. وكان يحتفل بعيد ميلادي كل سنة بطريقته البسيطة، لكن الصادقة… هدية صغيرة، ساعة فاخرة، مبلغٌ نقدي وربما فنجان قهوة نحكي فيه عن الحياة. خمس سنوات من الغياب، لكنه غياب ثقيل… يغلق الباب على كل ذكرياتي معه، ويتركني واقفة أمام عمرٍ يكبر، وقلبٍ لا يتجاوز الحزن. رحل أبي، ثم رحلت أمي، وبقيت أنا… أُطفئ الشموع عمري. أُرتب الذكرى كمن يُرتّب قلبًا مكسورًا كل عام، وأتظاهر بالقوة… فقط لأنهم علموني ألا أنهار بسهولة. أربعون عامًا أتممتها… لكنّي لا أحتفل. أنا أُرتّب الذكرى، أُمسك الصور بيدين لا تكفّ عن الارتعاش، وأتلو على نفسي تعاويذ الصبر، كأنها آخر ما تبقّى لي من الفرح. كل التهاني اليوم لا تُغني عن صوت واحد. كل الهدايا لا تُعادل حضن أم، أو دعاء أب. كل الرسائل لا تملأ هذا الصمت الذي يسكن داخلي منذ رحيلهم. لكني، رغم كل هذا، ممتنّة. ممتنّة أنهم كانوا في حياتي أصلًا. ممتنّة للسنوات التي عشتها معهم، حتى وإن كانت قصيرة. ممتنّة لكل لحظة قالوا فيها: “إحنا فخورين فيكِ.” وها أنا اليوم… أكمل الأربعين، لا لأُخبر العالم أنني أكبر… بل لأقول: أنا بنتهم… ولو كانوا غابوا. أنا امتداد حبهم… وسأُكمل الطريق كما علّموني. قويّة… رقيقة… ووفية لذكراهم حتى آخر شمعة. كل عام وأنا على العهد، لا أنساهم. كل عام وأنا أُطفئ الشموع… وأُشعل الدعاء لهم. كل عام وأنا بنت الأربعين… وبنتهم للأبد. كل عام وأنتما في قلبي. كل عام وأنا أحاول أن أكون كما أردتما لي أن أكون. كل عام وأنا أحملكم في خطواتي، في نجاحي، في اسمي الذي ما زلت أرفعه بفخر… لأنكما من زرعتماه. اليوم عيد ميلادي… وأنا لا أطلب شيئًا. فقط أتمنى أن تكونوا فخورين بي… كما كنتم دائمًا.