هيام الكركي تكتب
في خطاب العرش الذي ألقاه جلالة الملك عبدالله الثاني أمام مجلس الأمة، لم يكن جلالته يخاطب ممثلي الشعب بصفته رأس الدولة وحسب، بل بدا كأب كبير يلتقط نبض الناس، يشعر بما يشعرون، ويقلق كما يقلقون، ويواجه التحديات بعين المسؤولية وصلابة الإيمان. كانت رسائله ناضجة وصادقة، تسللت إلى وجدان كل أردني لأنها خرجت من قلب يعرف معنى الوطن وقيمته.
وحين قال جلالته: “نعم، يقلق الملك، لكن لا يخاف إلا الله”، لم تكن الجملة ترفًا لغويًا أو عبارة بروتوكولية، بل مضمون مُحمّل بدلالات القيادة الواعية. فالقلق على الوطن ليس ضعفًا، بل دليل يقظة وحرص، وهو الوقود الذي يمنع الركود ويصنع الإنجاز. أليس القائد الحقيقي هو من يقلق على مصير شعبه لا منهم؟
ولم يكن تكرار جلالته لكلمة “الأردني” في الخطاب مجرد مصادفة لغوية، بل تأكيد على أن هذا الشعب هو الركيزة الصلبة في كل منعطف. هو الجندي الذي حمى الثغور، والمزارع الذي زرع فأطعم، والمعلم الذي بنى عقولًا، والطبيب الذي صان حياة. الأردني الذي نهض مع قيادته عند اشتداد العواصف، ولم يتخلَّ عن مواقفه ولا ثوابته.
جاء الخطاب واقعيًا، يبتعد عن الإنشاء ويقترب من وجع التفاصيل. تناول ملفات التعليم والصحة والنقل والاستثمار والإدارة العامة، لا بوصفها عناوين عابرة، بل كخارطة طريق للدولة كلها. وعندما قال جلالته: “لا نملك رفاهية الوقت”، وضع الجميع أمام مسؤولية مضاعفة. فهل يلتقط المسؤولون هذه الرسالة بجدية؟ وهل يدرك كل صاحب منصب أن المرحلة المقبلة تتطلب عملًا لا شعارات، ونتائج لا خطابات؟
وفي حديثه عن غزة، لم يكن الملك سياسيًا يبحث عن توازنات، بل إنسان أصيل منحاز للحق. قالها بوضوح: “سنقف إلى جانبهم بكل إمكانياتنا”. وهذا هو الأردن؛ ثابتٌ في مواقفه، وفيّ لقيمه، لا يساوم على إنسانيته رغم محدودية موارده. فمن عمّان خرجت مواقف متنوعة دعمت القضية الفلسطينية منذ بداياتها، ولم تتغيّر بوصلتنا يومًا.
لقد حمل خطاب العرش روح الدولة المتجددة، تلك التي لا تنكسر أمام التحديات. فالتحديث السياسي والاقتصادي الذي يدعو إليه الملك ليس برنامجًا حكوميًا عابرًا، بل ثقافة وطنية يجب أن تتجذر في المؤسسات، وفي سلوك الفرد قبل نص القانون. ومن هنا، فكل مسؤول، وكل دائرة، وكل مواطن معنيٌ بالمشاركة في هذا التحول؛ لأن البناء الوطني عملية تراكمية تقوم على الوعي والإرادة.
إن حديث جلالته عن القلق ليس دعوة للانقباض، بل رسالة للحركة والتصحيح والعمل. فقلق القيادة هو مبعث طمأنينة للشعب، أما طمأنينة الشعب فهي ثقة بقائد يعرف طريق المستقبل. وبين القلق والطمأنينة خيطٌ رفيع من الثقة بالله وبعزيمة الأردنيين.
سيبقى هذا الوطن الذي وُلد في قلب الأزمات قويًا بشعبه، راسخًا بثوابته، شامخًا بقيادته الهاشمية. وسيظل يمضي نحو المستقبل بلا خوف، مستندًا إلى إيمان راسخ بأن الأردن يستحق دائمًا الأفضل، وبأن العمل هو الطريق الوحيد لصون استقراره ورفعته.












